(جريدة الأخبار اللبنانية)
منذ نحو ربع قرن، تؤكّد تقارير دولية أن تلوث الهواء يقتل واحداً من كل خمسة أشخاص يموتون في العالم. رغم ذلك، لم تثِر قضية تغير المناخ هلعاً كذاك الذي أثارته جائحة «كورونا»، مع أنها «قضية وجودية» أشد خطورة إن لجهة عدد الوفيات أو لجهة الخسائر الاقتصادية. ولكن، ماذا إن ترافقت الكوارث الصحية مع الكارثة المناخية؟
تتحمل الثورة الصناعية، كما بات معلوماً، مسؤولية مباشرة عن قضية تغير المناخ. قبل أيام، أقرّ بيل غيتس، أحد أركان الثورة المعلوماتية الجديدة، بأن تغير المناخ هو القضية الأكبر والأخطر في العالم. صحيح أنه لم يوفق في اقتراحاته (التي بدت سطحية) للمعالجة، كما نجح في التشخيص، إلا أن كلامه يعدّ مؤشراً على أن الخوف بدأ يدبّ في شرايين النظام العالمي المسيطر.
رغم ذلك، لماذا سهل على العالم التعامل مع جائحة كـ«كورونا» فيما لم يكترث لقضية أكثر خطورة كتغيّر المناخ؟
الجواب البديهي هو أن الجائحة قابلة للاحتواء ويسهل قياس النتائج المحقّقة من معالجتها، أما الثانية فأكثر تعقيداً! إذ تتطلب مواجهة الوباء إجراءات «بسيطة»، كالنظافة والتباعد والحجر في أقصى الحالات، والوصول إلى اللقاح المناسب، فيما يفترض حل قضية المناخ تغييراً جذرياً في كل الأنظمة السائدة، وبينها النظام الصحي العالمي.
أضف إلى ذلك أن الأنظمة المسيطرة لا تولي قضية المناخ اهتماماً كافياً لأسباب شعبوية، فمعالجة تلوث الهواء والمناخ تتطلب تضحيات لا يجرؤ أحد على الإقدام عليها. والناخب المشارك في العملية الديمقراطية (وإن كان بشكل شبه وهمي) يهمه تحقيق الملموس من المطالب. وليس أدلّ على ذلك مما حصل في فرنسا، عندما تحمس الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ووضع ضريبة على الوقود لتخفيف الانبعاثات والبدء بتطبيق اتفاقية باريس المناخية، فكان رد «القمصان الصفر» مدوّياً عبر رفعهم شعار «نهاية الشهر أهم من نهاية العالم»!
الربط بين تغير المناخ والصحة ليس جديداً. تقارير دولية كثيرة حول الروابط بين الاحتباس الحراري والصحة أكّدت تسبب تغير المناخ في نشر الأمراض والموت. في تقرير نُشر حديثاً لعلماء من «المنظمة العالمية للأرصاد الجوية» حول المناخ العالمي، تبيّن أن العام الماضي كان الأكثر دفئاً على الإطلاق وأن ملايين الأشخاص تضرروا من حرائق الغابات والفيضانات والحرارة الشديدة.
ونشرت مجلة «لانسيت» (Lancet) للأبحاث الطبية، الأسبوع الماضي، دراسة أكّدت أن موجات الحرارة وتلوث الهواء والطقس القاسي تضر بشكل متزايد بصحة الإنسان. واعتمدت في ذلك على تحليل لبيانات الصحة العامة عام 2019، هو الأكثر شمولاً حتى الآن حول العلاقة بين المناخ والصحة، وساهم فيه عشرات الأطباء وخبراء الصحة العامة من أنحاء العالم. التحليل أكد العلاقة الوثيقة بين حرق الوقود الأحفوري وبعض الأمراض التي تؤدي إلى الوفاة، ولفت إلى أن «العديد من الممارسات والسياسات الكثيفة الكربون تؤدي إلى الإضرار بنوعية الهواء وجودة الغذاء والسكن، مما يضر بشكل غير متناسب بصحة السكان».
الدراسة أكّدت أن موجات الحرارة الأطول والأكثر شدة الناجمة عن تغير المناخ ذات تأثيرات مميتة حول العالم، وأن كبار السن هم الأكثر عرضة للخطر (كما هي الحال مع فيروس «كورونا»). ولفتت إلى أنه في السنوات العشرين الماضية، زاد عدد الأشخاص الذين ماتوا نتيجة الحرارة الشديدة بأكثر من 50%، وتوفي ما لا يقل عن 296 ألف شخص بسبب الحرارة عام 2018. ولاحظت أن موجات الحر المميتة ضربت خصوصاً في نصف الكرة الشمالي، وأنه في الولايات المتحدة وحدها، تضاعف في السنوات العشرين الماضية عدد الوفيات المرتبطة بالحرارة بين من تزيد أعمارهم على 65 عاماً، وأن نحو 20 ألفاً من كبار السن في الولايات المتحدة توفوا العام الماضي بسبب موجات الحر. ولفتت إلى أن من يعملون خارج المنازل أو المكاتب والفقراء والطلاب والرياضيين أكثر عرضة للإصابة بأمراض مرتبطة بالحرارة.
دراسة «لانسيت» شدّدت على أن تغيّر المناخ يمثل تهديداً للبنية التحتية للصحة العامة كالمستشفيات ومرافق الرعاية الأولية وخدمات الطوارئ. ولفتت إلى أن عدد البلدان التي ربطت وكالات الأرصاد الجوية بوكالات الصحة العامة لتقديم معلومات عن المناخ والطقس للأطباء والمستشفيات زاد إلى 86 دولة عام 2019 من 70 دولة عام 2018. وتزداد أهمية مساعدة المستشفيات والأطباء في الاستعداد للكوارث الناجمة عن المناخ، مع تزايد احتمالات حدوث «الكوارث المتزامنة»، كتزامن أزمة المناخ مع أزمة الفيروسات... وقد بيّن ضعف الاستعداد العالمي لمواجهة جائحة «كورونا» العام الماضي وسوء استعدادات أجهزة الصحة العامة للتعامل مع الكوارث الكبرى حتى في الدول المتقدّمة.
في السنوات العشرين الماضية، زاد عدد الذين ماتوا نتيجة الحرارة الشديدة أكثر من 50%
كما لفتت الدراسة إلى أن تلوث الهواء الناتج عن قطاعي الزراعة والنقل وعن محطات الطاقة يتسبّب في الإصابة بالربو وأمراض تنفسية أخرى تجعل من جائحة كـ«كوفيد-19» أكثر فتكاً.
الدكتور رينيه سالاس، طبيب الطوارئ في مستشفى ماساتشوستس العام وأحد المعدّين الأساسيين للقسم المخصص للولايات المتحدة في الدراسة، دعا «الحكومات التي ترغب في دعم الصحة العامة إلى التوقف عن دعم صناعة الوقود الأحفوري مالياً». وهي المرة الأولى التي يُربط فيها بهذا الوضوح بين سياسات الطاقة والسياسات الصحية، في بلد ليبرالي لطالما نظّر للفردية والرفاهية ولأهمية اقتناء السيارة الخاصة... إلخ.
هذه التقارير تؤكد ما ذهبت إليه خمسة تقارير أعدّتها الأمم المتحدة حول تغير المناخ وخلصت إلى أن مشكلتي تغير المناخ وتلوث الهواء واحدة، وهما تتسبّبان بأكبر عدد من الوفيات، وبموت الكوكب بـ«الاحتباس الحراري»، وتشتركان في مسبّب جذري واحد هو احتراق الوقود الأحفوري.
وتجدر الإشارة إلى ما أكده أحدث بيانات الانبعاثات العالمية بأن عمليات الإغلاق الواسعة النطاق عام 2020، بسبب «كورونا»، لم تساهم كثيراً في تقليل كمية ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، لتراكم هذه الانبعاثات في الجو منذ الثورة الصناعية.
هل يمكن الوقاية من تغير المناخ أسوة بالوقاية المطلوبة من الفيروسات؟ الجواب هو نعم، ولكم فقط في حال اقتنعنا بتغيير جذري في طريقة تفكيرنا وعيشنا، وبأن ذلك لن يحصل إلا مع تغيّر الأنظمة بشكل جذري أيضاً.
وجات الحر أكثر فتكاً في المناطق الحضرية والمدن التي لا توجد فيها مساحات خضراء ما يؤدي إلى تحوّلها إل جزر حرارية شديدة الخطورة تحبس الهواء الساخن والتلوث. ومعلوم أن زيادة الحدائق العامة وزراعة الأشجار في وسطيات الطرق، الداخلية والسريعة منها، وحول المناطق الصناعية، تقلل التلوث وتحمي الصحة. كما أن بناء مساكن جديدة تحفظ الطاقة وتعتمد قواعد لمعالجة تغير المناخ والتكيف معه، تساهم في تجنب الوفاة المبكرة. وإذا تخيلنا مدينة كبيروت يتجاوز عدد لوحات الإعلانات فيها عدد الأشجار، يتبين أن لا جدوى من الحديث عن سياسات صحية وعن مضاعفة عدد الأسرّة في المستشفيات وصرف المزيد من القروض والمال على «تطوير» النظام الصحي.
كما يمكن الجزم بأن سيطرة شركات الأدوية والمستلزمات الطبية على المشهد العالمي والمحلي لا تبشّر بحماية الصحة العامة إذا لم تدمج السياسات الصحية مع السياسات البيئية وسياسات مكافحة الأوبئة مع سياسات مكافحة تغير المناخ.