"نيويورك تايمز"
تحت عنوان “حزن ودهشة من العالم حول غياب الدور الأمريكي”، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا لكاترينا بنهولد قالت فيه إن انتشار فيروس كورونا هز الافتراضات القوية حول الخصوصية الأمريكية، فهذه هي المرة الأولى منذ قرن لا يتطلع فيها أحد لقيادة واشنطن.
وأشارت فيه إلى أن صور العنابر التي فاضت بالمرضى والطوابير الطويلة للعاطلين عن العمل التي ظهرت على شاشات التلفزة، جعلت الناس في أوروبا وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي يراقبون بنوع من الدهشة وعدم التصديق. وقال هنريك إندرلين، مدير جامعة هيرتي المتخصصة بالسياسة العامة: “أخذ الناس بالتساؤل عندما شاهدوا هذه الصور في مدينة نيويورك: كيف حدث هذا؟ وكيف كان هذا ممكنا؟”، مضيفا: “لقد صعقنا، انظر لطوابير العاطلين عن العمل، 22 مليونا”. وعلق أستاذ التاريخ الأوروبي بجامعة أوكسفورد تيموتي غارتون آش: “أشعر بحزن مشوب باليأس”.
ولم يأخذ الوباء الذي انتشر حياة الكثيرين من نيودلهي إلى نيويورك فقط بل هز أيضا الفرضيات الأساسية حول الخصوصية الأمريكية والدور الذي لعبته أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قبل عدة عقود. أما اليوم فالصورة مختلفة حيث تم تشخيص أكثر من 840.000 أمريكي بمرض كوفيد- 19، ومات على الأقل 46.784 وأكثر من أي مكان في العالم. فمع انتشار الفيروس لم يختلف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع حكام الولايات حول ما يجب فعله بل حول من يملك الصلاحية. وأثار ترامب حركة احتجاج على خلاف ما نصح به علماء الصحة وقام بتقديم رد غير صحيح لما تقوم به الحكومة وعلى قاعدة يومية. واستخدم هذا الأسبوع الوباء لتعليق الهجرة والمهاجرين الراغبين بالحصول على البطاقة الخضراء.
ويرى دومينيك موسيه، المحلل السياسي في معهد مونتنيه بباريس: “لم تتصرف أمريكا بطريقة سيئة فقط ولكنها تصرفت بطريقة استثنائية سيئة”. وكشف الوباء عن قوة وضعف كل مجتمع، فقد أظهر كما يقول موسيه قوة وقمع المعلومات التي مارستها الديكتاتورية الصينية عندما فرضت إغلاقا تاما على مدينة ووهان.
كما كشفت عن ثقة الرأي العام بالحكومة الألمانية والروح الجمعية مع أنها عززت النقد حول تردد البلد في التقدم وقيادة أوروبا. أما في الولايات المتحدة فقد أظهرت الأزمة جانبي ضعف، حيث فاقم كل منهما الآخر: القيادة المتقلبة للرئيس ترامب، وعدم اهتمامه بالخبرات ورفضه اتباع نصيحة مستشاريه الطبيين. أما الملمح الثاني فهو غياب شبكة صحية واجتماعية قوية.
ويقول موسيه إن أمريكا جهزت نفسها لنوع غير صحيح من الحرب و”جهزت نفسها لمواجهة هجمات 9/11 جديدة ولكن الفيروس حضر”. وهو “ما أثار السؤال التالي: هل أصبحت أمريكا القوة الخطأ للأولويات الخطأ؟”. فمنذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض وتبنيه شعار “أمريكا أولا” حضرت القوى الأوروبية نفسها لرئيس مستعد للمخاطرة وكسر التحالفات القديمة وتمزيق المعاهدات الدولية. ووصف مثلا حلف الناتو بالمهجور وانسحب من معاهدة باريس للمناخ ومزق الاتفاقية النووية مع إيران.
إلا أن القيادة الأمريكية غائبة في الأزمة الحالية ولا أحد يتطلع لها. وفي برلين عبر وزير الخارجية هايكو ماس عن هذا حيث قال إن الصين “تبنت إجراءات ديكتاتورية فيما تم التقليل من الفيروس في أمريكا ولمدة طويلة”. وقال في حديث لمجلة “دير شبيغل” إن “هذين الموقفين المتطرفين لا يمكن أن يكونا نموذجا لأوروبا”.
وتضيف الصحيفة أن أمريكا دائما قدمت قصة في الأمل، ليس للأمريكيين فقط ولكن لبقية العالم أيضا. فماس الذي نشأ في ظل الحرب الباردة حفظ القصة عن ظهر قلب مثل الكثيرين في مناطق من العالم وآمن بها. وبعد ثلاثة عقود تقريبا تبدو الرواية مشكلة. ففي الشهر المقبل ستحل ذكرى هزيمة الفاشية على يد الأمريكيين والذين دافعوا عن الديمقراطية في القارة ضد الأنظمة الديكتاتورية، لكن أمريكا لم تستطع اليوم الدفاع عن مواطنيها وقدمت درسا سيئا مقارنة مع الدول الديمقراطية والمستبدة.
وهذه هي مفارقة ساخرة، فقد كانت ألمانيا وكوريا الشمالية نتاجا للقيادة الأمريكية المتنورة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وقدمتا صورة مثالية وقوية عن محاربة الفيروس مقارنة مع أمريكا. ولم تكشف الأزمة عن فشل الولايات المتحدة على الساحة الدولية فقط بل أيضا عجزها عن تقديم العون لمواطنيها.
ويقول ريكاردو هاوتسمان، مدير “غراوث لاب” بجامعة هارفارد: “لا توجد هناك قيادة دولية بل ولا توجد قيادة وطنية أو فدرالية بالولايات المتحدة” و”بهذا المعنى فهذا فشل للقيادة الأمريكية في الولايات المتحدة”. صحيح أن بعض الدول الأوروبية واجهت محنة في التعامل مع الفيروس وبلغت الوفيات فيها أكثر من نسبة السكان كما في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. والفرق هو أن الفيروس ضرب سريعا قبل أن يكون لديها الوقت الكافي للتحضير.
والمقارنة بين موقف ألمانيا والولايات المتحدة في الرد على كوفيد-19 مثيرة للدهشة. ففي الوقت الذي تعرضت فيه المستشارة أنغيلا ميركل لانتقادات لعدم اتخاذ موقف قيادي في أوروبا إلا أنها عالجت الفيروس حسب الأصول بدعم من نظام صحي قوي وإستراتيجية الفحص الواسعة وقيادة سياسية فاعلة ومحل ثقة.
وتصرفت ميركل بطريقة لم تظهر من ترامب، فقد كانت صادقة حول مخاطر الفيروس على الناخبين وردت بسرعة. واعتمدت على 16 حاكما، وكطبيبة فقد اتبعت النصيحة العلمية وتعلمت من أحسن التجارب في أماكن أخرى. وارتفعت شعبيتها بنسبة 80% مع أنها أعلنت عن عدم ترشحها لولاية أخرى ونظر إليها كقوة انتهت. وقال غارتون آش: “لديها عقل الباحث العلمي وقلب ابنة قسيس”.
أما ترامب الخائف على الاقتصاد في عام انتخابات فقد عين لجنة من رجال الأعمال للنظر في عملية الخروج من الإغلاق. وتحب ميركل الخروج من حالة الإغلاق إلا أنها طالبت الألمان باتخاذ الحيطة والحذر واستمعت لنصائح لجنة من تخصصات متنوعة مكونة من 26 عالما في أكاديمية العلوم الوطنية الألمانية. ولا تضم اللجنة باحثين علميين فقط بل أيضا فلاسفة وخبراء تعليم واجتماع وعلم نفس سلوكي ومن عالم الاقتصاد.
ويقول جيرالد هاوغ، رئيس الأكاديمية: “تحتاج إلى نهج شامل لمواجهة هذه الأزمة”. ويفهم الساسة هذا كما يقول هاوغ المتخصص بعلم المناخ وقام بأبحاث في جامعة كولومبيا. وقال إن الولايات المتحدة لديها أفضل العقول في مجال العلم ولكنه لم يستمع لهم و”هذه مأساة”. وعلى العموم فمن الباكر لأوانه الحديث عن نهاية فصل الوباء وحصة كل دولة من النجاح. فهو يعد مشكلة تضغط على الأنظمة السياسية كما يقول غارتون آش.
ولم يحدث بعد تحول في الميزان العسكري، فلا تزال الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم، ولا نعرف ماذا سيحدث للاقتصاد العالمي بعد مرحلة الكساد والتي سيعاني فيها كل اقتصاد من امتحان صعب و”لا أحد يعرف من سيخرج قويا في النهاية”. وكتب بنجامين حداد الباحث في المجلس الأطلنطي أن الوباء يعتبر امتحانا للقيادة الأمريكية لكن من الباكر القول إن كان الضرر الذي سيتركه عليها طويل الأمد.
وهناك إمكانية لأن تستعيد أمريكا مصادرها وتنبني وحدة وطنية فيما يتعلق بمنافستها الصين. وهناك واقع سيتأثر بالوباء وهي الانتخابات التي ستحدث في أجواء مثل الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، مما قاد كما يقول موسيه إلى الصفقة الجديدة.