(جريدة الأخبار اللبنانية)
يحلّ يوم الطفل هذا العام مناسبة ثقيلة، لأنها ذكّرت العائلات بطفولة أولادهم المبتورة وبحجم الظلم الذي يتعرّض له الطفل في لبنان. فالأزمات الاقتصادية والمعيشية، من جهة، ووباء «كورونا»، أثارت الشفقة على حال الطفل اللبناني، ودفعت الكثير من أرباب الأسر إلى التفكير بالهجرة.
حلم «بيضة الكيندر» و«التشيبس» و«الباربي»
يقول أستاذ الاجتماع في الجامعة اللبنانية أحمد شامي، إن جميع الأزمات هذا العام في لبنان «تواطأت لتجعل أطفال لبنان يعيشون حياة قاسية مغايرة للحياة التي عاشوها. كان من المفترض أن تعوّض الأسرة عما خسره الطفل بسبب الحجر المنزلي، وتخفّف من أثر التغيير الذي أحدثته جائحة «كورونا» في حياتهم. لكنّ الطفل اللبناني وجد نفسه محجوراً في بيت «متأزم»، كما يصفه شامي، وسط عائلة دائمة التوتر والقلق. لم يستطِع الأهالي إخفاء الأثر النفسي الذي تخلّفه الضائقة المالية عن أطفالهم الموجودين معهم دائماً. كما «ازدادت الممارسات العنفية بحق الأطفال الذين صاروا «فشة خلق» البعض في هذه المرحلة الصعبة». وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، عجز أولياء الأمور عن إعطاء جرعات أمل ومعنويات لأولادهم، لأنه «بدو مين يعطيهن»، كما يقول شامي.
التحدّيات الاقتصادية التي يواجهها العديد من العائلات اليوم للوصول إلى الخدمات الأساسية أدّت إلى سلب الأطفال أدنى حقوقهم. تشير ممثلة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) يوكي ماكو، في تقريرها في أواخر عام 2020 إلى «ارتفاع نسبة الفقر في لبنان من 28 في المئة عام 2018 إلى 55 في المئة، وتضاعف نسبة الفقر المدقع ثلاث مرات من 8 في المئة إلى 23 في المئة». هذه الحال تركت أثراً مدمراً على الأطفال خاصة. فانخفضت خدمات التلقيح الروتيني انخفاضاً حاداً وتراجعت المعاينات الطبية للنساء الحوامل بمعدل 20 في المئة مقارنة بعام 2019 وفق التقرير. عدا عن انقطاع حليب الأطفال والحفاظات والكثير من الأدوية وغيرها من السلع الاستهلاكية الأساسية الذي يشهده لبنان في الآونة الأخيرة.
ملامح الحرمان عند الأطفال تظهر بوضوح كلما اشتدت حدّة الأزمة الاقتصادية. فاليوم الذي تشتري فيه خديجة لحمة يكون بمثابة «العيد» عند أطفالها. أمّا شراء الثياب فصار «رفاهية» منسية بالنسبة إليهم. خديجة كالكثيرين ممن انهارت قدرتهم الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار.
تراجعت نسبة مبيع الألعاب في محالها حوالى 90 في المئة
«سعادة الأطفال عند شرائهم للألعاب والدمى لا تقدّر». ترى ذلك سمر يوسف، الموظفة في أحد محال بيع الألعاب. لكن تحقيق هذه السعادة صار اليوم صعباً جداً ومن الكماليات. «سعر الدمية التي لا يتجاوز حجمها كفّ اليد يقارب الـ50 ألفاً تزداد كلما ارتفع سعر صرف الدولار»، بحسب يوسف التي تشير إلى «تراجع نسبة مبيع الألعاب في محالها حوالى الـ 90 في المئة».
«بيضة الكيندر» ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بطفولة كثيرين حتى كاد أن يكون شراؤها عادة يومية للطفل كلما نزل إلى الدكانة أو مر من جانبها. لكن «محبوبة الصغار» اليوم مفقودة في معظم الدكاكين الصغيرة والكبيرة وبعض السوبر ماركات. سعر «البيضة» الأصغر حجماً ارتفع من ألفين إلى 9 آلاف ليرة. «يفضّل أغلب الأهالي أن يشتروا بثمنها خبزاً ولبنة»، كما تقول صاحبة دكان في سوق عين السكة في برج البراجنة ليندا جابر. الأخيرة تروي ما حصل منذ أيام في دكانتها بحرقة. وتقول إن طفلاً دخل برفقة والدته وراح يضع على الطاولة ما يشتهيه من «تشيبس» وسكاكر وشوكولا وعصير. وعندما التفتت إليه والدته ضربته على يده وقالت له: «اشترِ بألف ليرة فقط كما نبهتك». لكن الألف ليرة لا تشتري لهذا الطفل سوى صنف واحد.
الأطفال في الحجر المنزلي: «احذروا الاكتئاب الطفولي»
لم يكن سهلاً على الأطفال أن يتكيفوا مع التغيّرات الطارئة التي أحدثتها جائحة «كورونا» في نمط حياتهم. فعبروا من خلال سلوكياتهم وردات فعلهم السلبية عن عدم قبولهم بهذا التغيير وامتعاضهم من حجرهم ضمن جدران البيت بعيداً عن مدارسهم وعن زملائهم في الصف من جهة، وعن أماكن الترفيه من جهة ثانية. ومع أنه لا يزال الحديث عن آثار الحجر المنزلي على الأطفال مبكراً، يجزم علماء الاجتماع والنفس أن الحجر المنزلي «خلّف تشوهات في نفسية الطفل وشخصيته، بدأنا نلمس بوادرها اليوم من خلال ارتفاع حالات الاكتئاب الطفولي، العنف اللفظي والجسدي، والانطوائية لدى الأطفال»، على ما يقول شامي. «إغلاق المدارس، المكان الأساسي لبناء شخصية الطفل، ومتابعة التعليم عن بعد سيخلق ندوباً نفسية تلازم الطفل لسنوات».
يجزم علماء الاجتماع والنفس أن الحجر خلّف تشوهات في نفسية الطفل وشخصيته
الطفل خسر مساحة مهمة للحوار والنقاش مع الآخرين، وفرصة للتعبير عن نفسه وعن آرائه، ومجالاً لتفريغ طاقاته وإبراز مواهبه. تقول المعالجة النفسية المتخصصة في العلاج النفسي العيادي رولا عز الدين، إنه «عندما تراجعت علاقاته الاجتماعية، لم يجد الطفل غير البيت مكاناً لتفريغ انفعالاته المكبوتة، فلاحظ العديد من الأهالي أخيراً التصاق العصبية بشخصية أولادهم»، كحال الطفل مصطفى الذي «صار عصبياً على غير عادة، يصرخ وينزعج بسرعة من أبسط الأمور»، تشكو والدته. وتقول: «أنا ملتزمة بالحجر المنزلي لأنني أخاف على أولادي من التقاط عدوى كوفيد-19. لكنهم لا يزالون صغاراً ولا يعون خطورة الوضع، فيشكون باستمرار من الملل والضيق بسبب التوقف عن ارتياد أماكن التسلية والترفيه».
إذا استمر الأهالي بقلقهم الشديد من خطر الإصابة بالوباء من دون أن يعوضوا عمّا خسره الطفل بسبب الحجر المنزلي «قد يتجه الولد إلى الاكتئاب الطفولي»، بحسب عز الدين. ومن عوارضه «ظهور سلوكيات انعزالية يتجنّب الطفل على أثرها اللعب مع الآخرين ويختلّ التوازن الغذائي لديه. فإمّا يتجه إلى الأكل بشراهة أو يتوقف عن تناول الطعام ويهمل نفسه ولا يهتم بنظافته الشخصية وتقلّ حركته ونجده دائم الجلوس أمام التلفاز أو يقضي وقته بالألعاب الإلكترونية. ثم يصبح عدائياً فيلجأ إلى ضرب إخوته وأصدقائه».
ما هي المخارج لتجنب تلك العوارض؟ «على الأهل أن يفكروا كيف يسدّون النقص في حياة أولادهم. فيخلقون نشاطات بيتية لإشعار الطفل أن نظام حياتهم لم يتعطل بالكامل». زين الدين تنبهت إلى ضرورة استغلال أوقات الفراغ لدى أولادها وقامت بملئها عن طريق القيام بنشاطات من المنزل تشارك فيها العائلة ككل من بينها ممارسة التمارين الرياضية، التلوين والرسم، وحفظ الشعر. «ومع أن أولادي لا يشعرون بالتسلية ذاتها عندما يلعبون مع أولاد من عمرهم، لكن يبقى ذلك أفضل من لا شيء»، تقول.