(موقع العهد الإخباري)
نهضة تربوية كبرى شهدها لبنان في العقود الثلاثة المنصرمة، تمثّلت بولوج ثقافة الدمج التربوي وانتشارها بشكل واسع جداً. فقد مرّت 25 سنة على انطلاقة عملية دمج الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصّة في المدارس مع أقرانهم، حسب عملية تربوية متكاملة ودقيقة جدا تراعي الكثير من التفاصيل.
وبحسب تعريف منظمة اليونسكو فإنّ الدمج التربوي هو عملية للتعامل والاستجابة للاحتياجات المتنوّعة لجميع المتعلمين، وينطوي على تغييرات وتعديلات في المحتوى والمقاربات وهيكلية التعليم والاستراتيجيات، مع رؤية مشتركة تشمل جميع الأطفال من الفئة العمرية المناسبة، والاقتناع أنّ تعليم جميع الأطفال هو من مسؤولية النظام التعليمي العادي.
تجربة رائدة في هذا المجال لخّصتها جمعية "المبرات" التي كانت السبّاقة في البدء بدمج ذوي الاحتياجات الخاصّة في مؤسساتها التربوية. وفي حديث لموقع "العهد" أكدت نائبة مدير الجمعية للتربية والتعليم رنا اسماعيل أنّ البدايات كانت صعبة حيث تمّ الاعتماد على تجارب أجنبية (إيطاليا)، وتمّ تشكيل فريق من المعلّمين وتدربيهم وتأهيلهم لمواكبة هذا الملف. ومع مرور السنوات تمّ التركيز على تطوير آليات العمل ومواكبة الدراسات العلمية الجديدة، والمشاركة في المؤتمرات المحليّة والدوليّة في كلّ ما يتعلّق بتطوير وزيادة المعلومات والخبرات العلمية.
اليوم وبعد أكثر من ربع قرن على الانطلاقة، نتائج مشرّفة للدمج التربوي في جمعية "المبرات" تتمثّل بأكثر من 20 ألف خريج من ذوي الاحتياجات الخاصّة لحدّ اليوم على مستوى لبنان، وحوالي الألف حالة تتمّ مواكبتها سنويا في 15 مدرسة على كافّة الأراضي اللبنانية، إضافة إلى مركز للتشخيص والتوجيه التربوي تمّ إنشاؤه لهذه الحالات.
دراسة الأون لاين المستحدثة بسبب "كورونا" لطلاب الدمج التربوي
في آذار 2020 عندما أعلنت الدولة اللبنانية إغلاق المؤسسات التربوية بسبب وصول فيروس كورونا إلى لبنان، كان لا بدّ من مراعاة طلاب الدمج التربوي في الخطّة التعليمية التي وضعتها جمعية "المبرات" للعام الدراسي، فقامت بوضع خطّة تربوية علاجيّة خاصّة لهذه الفئة تتمثّل بمنصّة الكترونية لايصال المواد التعليمية والدروس بطريقة تراعي الاحتياجات الخاصّة للطلاب.
كما تمّ تحديد مسارات التعليم في مرحلتي الإغلاق الكلّي أو الفتح المحدود للمدارس والمؤسسات وهي ثلاثة مسارات: التعليم المباشر عبر الصفوف الافتراضية (virtual classroom)، التعليم عبر المنصّة التعليمية (تعليم غير متزامن)، والتعليم المختلط الذي يجمع بين الحضور المباشر (يومين في الأسبوع الأول و3 أيام في الأسبوع الثاني) وفق شروط صارمة متعلّقة باحترام التباعد الاجتماعي والتعقيم ووضع الكمامات، وبين المتابعة عبر المنصّة والملتقيات، كذلك مراعاة الجلسات الدورية التي يخضع لها الأطفال.
واللافت أنّ الجمعية ركّزت على أن لا تُستثنى أي مادة تعليمية أو علاجية (نطق، حسي حركي، نفسي، فيزيائي) من تحويلها إلى محتوى رقمي، حتى المواد الأدائية كالرياضة والمسرح.
ومن الصعوبات الكبيرة التي واجهت جمعية المبرات في الفيديوهات العلاجية هو كثرة الحالات ودقّتها وضرورة مواءمة كلّ حالة مع الفيديو العلاجي لها. فالعلاج النفسي والعلاج الفيزيائي يتطلبان الحضور المباشر للطفل الذي يعاني المشكلة ليتمّ تحصيل الاستفادة التامّة، لذلك فالفيديو البديل يتطّلب مجهودا وأساليب حرفيّة عالية ويشكّل تحديا كبيرا.
وفي حديث مع "العهد"، تقول السيدة منال التي دمجت طفلتها "فرح" تربويا بسبب المشكلة الذهنية التي تعاني منها منذ الولادة، إنّ تجربة التعليم عن بعد لطفلتها كانت تزخر بصعوبات كبيرة بسبب الكمّ الكبير من التحديات المرتبطة بإيصال المفاهيم التربوية لطفلتها. ساعات تمضيها منال مع طفلتها كلّ يوم كي تتأكّد أنّ جميع الكفايات المطلوبة قد تمّ فهمها، مع صعوبات بالغة تتمثّل بسرعة ملل طفلتها وتشتتها الدائم أثناء الصفوف الوجاهية، كذلك ضعف التركيز الذي تعاني منه فرح والذي أجبرها على أن توضع في خانة الأطفال ذوي الصعوبات التعلميّة. وتعمد السيدة إلى الاستعانة بمعالجة في المجال الحسّي الحركي، تحضر إلى منزلها من أجل تنفيذ نشاطات لطفلتها تكون بمثابة تحفيز ذهني لها كي يتمّ تجاوز هذه المرحلة بأقلّ الأضرار.
أمّا فاطمة وهي أمّ لطفل من ذوي الاحتياجات الخاصّة، والذي دُمج تربويا منذ مرحلة الروضات، فتلحظ أنّ مرحلة التعليم في زمن كورونا تحمل صعوبات بالغة نظرا لتفاصيل دقيقة تتعلّق بآليات اكتساب الأهداف التعليمية. ولتحقيق هذه الأهداف بادرت فاطمة بتوجيه من المدرسة، الى الانخراط ضمن مجموعة خاصّة للأهل على أن لا تتجاوز الـ5 أفراد، ويجب أن تكون حالات الإعاقة أو الحالة المشخّصة لدى أطفالهم متشابهة، يدير كلّ مجموعة "معلم محتضن" وهو معلّم متخصص في التربية المختصّة يكون صلة الوصل بين الأهل والمؤسسة.
تُجمِع منال وفاطمة على أن هناك أهمية كبرى لهذه المبادرات، وتركزان على دورها الكبير الذي تمّ تفعيله لمواكبة الأهل ودعمهم وإرشادهم الى كيفية مواكبة أطفالهم والتأكّد من عدم ضياع العام الدراسي على هذه الفئة التي تُقاوم بالأصل لتحصيل العلم، فكيف في ظلّ وجود جائحة خطيرة فتكت بالمجتمعات، وفككت أواصرها في كلّ القطاعات؟
وأيضاً من أهداف هذه الملتقيات التربوية التركيز على التفريغ النفسي والدعم العاطفي وتنمية مهارات التعلّم العاطفي الاجتماعي، إضافة إلى الأهداف الأكاديمية بطبيعة الحال.
إذاً فالتحديّ كبير أمام هذه الفئة التي تضمّ حالات صعبة، وللأسف هذه الفئة تتأثر جدًا بغياب التواصل الجسدي والاجتماعي، واستخدام الشاشات يؤثر على الكثير من المهارات عندها.
يبقى الرهان على الدعم المالي والنفسي والمعنوي للأطفال وللأهل وللمؤسسات التربوية التي تقوم بأدوار جبّارة في ظلّ صعوبات بالغة وعراقيل وعوامل مُحبطة ومدمرة يعاني منها لبنان. على أمل أن يصل الموضوع إلى النهايات المشرّفة التي ترضي جميع الأطراف المشاركين في العملية التربوية، وتُنصف الطلاب "أصحاب الهمم العالية".