في كثير من المراكز المخصصة لعزل المصابين بفيروس كورونا في العراق، يتضاعف الضغط على الكوادر الطبية ليس فقط بسبب تزايد أعداد المصابين الذين يدخلون الى تلك المراكز بل أيضا لوجود مرافقين من أسر المرضى معهم، في غالب الأحيان.
لذلك تشهد تلك المراكز "تروما جماعية" كما تقول الطبيبة العراقية، حنين سالم، التي تعمل في قسم العناية المركّزة في مركز رعاية مرضى كورونا التابع لمستشفى الكندي في العاصمة بغداد.
ورغم إدراكها لخطورة السماح بمرافقة المرضى، لا يسعها هي وباقي الأطباء إلا التعاطف مع الأهالي، كما لا توجد قوانين مفعّلة تحدد عدد المرافقين وأوقات الزيارة، حسبما توضح الدكتورة حنين لبي بي سي نيوز عربي.
تحدثت الطبيبة، التي تخرجت عام 2017، إلينا عن موقفين لا تزال تفكّر فيهما كثيرا؛ الأول عن أم شابة لم تكن تتجاوز الـ32 من عمرها، نصحها الكل بعدم الذهاب للمستشفى رغم معاناتها من أعراض كورونا أثناء الحمل، ولكن بعد ولادتها وتدهور حالتها نقلها زوجها إلى غرفة الطوارئ.
تقول الطبيبة: "بعد أسبوعين، صار وضعها أسوأ. كانت مطيعة لكل تعليماتنا. وكانت تبكي طوال الوقت من شدة الألم. فعلنا كل شي ممكن حتى لم يعد بإمكاني أنا والممرض المناوب إلا الدعاء لها".
"كان يبدو لي أنها وزوجها من عائلة محافظة، ومع هذا، وفي إحدى جولاتي الليلية، رأيت زوجها الذي كان يجلس طوال الوقت على الأرض بجانبها، يقترب منها ويحضنها بشدة ويبكي ويشجعها لتعود معه إلى البيت حيث ينتظرهما أولادهما الثلاثة، إلى أن توفيت".
أما الموقف الثاني فكان من المواقف الطريفة النادرة التي مرّت عليها خلال الأشهر التسعة التي أمضتها تعمل في علاج المصابين بفيروس كورونا.
ففي إحدى جولاتها، ذهبت حنين لتفقّد مريضة ستينيّة أشرفت عليها لعدة أسابيع وكانت لا تزال موصولة بجهاز التنفس وابنتها إلى جانبها تتناول وجبة طعام أحضرتها معها.
تقول الدكتورة حنين إن المريضة ما أن رأتها قربها حتى أخذت تشير لابنتها وتشرح لها بصعوبة - وهي تتكلم من وراء قناع الوجه - أن عليها تقديم الطعام للطبيبة كنوع من "الضيافة".
"كانت السيدة تتصرف وكأنها في بيتها وليست في ردهة أمراض حرجة. رغم عجزها عن الكلام ورغم تعبها أرادت أن تحتفي بي وتقدم لي الطعام. صرت أقول لها إنني أرتدي ملابس الوقاية ولا يمكنني الأكل واعتذرت منها، فأخذت تطلب مني أن أدلّها على بيتنا كي تزورنا عندما تخرج لتشكرني".
"المصابون يخشون المستشفى"
رغم ما تكشفه مثل هذه القصص عن طباع أهل العراق، إلا أن هذه العادة الاجتماعية في مرافقة المرضى زادت العبء على الأطباء، فأصبحت مهام الواحد منهم تتضمن الإشراف على أعداد كبيرة من المصابين والمصابات، والعمل لساعات طويلة، والإجابة أيضا على أسئلة المرافقين وتحمّل إلحاحهم وتهدئة مخاوفهم، فضلا عن القلق من احتمال التقاطهم العدوى.
علما أنه في السابق - قبل وباء كورونا - كان بعض الأطباء يتعرضون لمواقف صعبة بسبب ما يسمّى بـ"الفصل العشائري"، أي قد تتدخل عشيرة المريض بالقوة في حال وفاة المريض.
إحدى المشاكل الحالية في العراق تتمثل في نقص عدد الأطباء الذين يفضلون الهجرة لأسباب كثيرة، لذلك زاد الضغط على الأطباء العاملين في مراكز العزل.
الطبيب العراقي، عباس عبدالسلام عبدالرحيم الطعّان، يقول إنه أشرف وحده في إحدى المناوبات الليلية على 150 مريضا بكوفيد-19.
ويقول لبي بي سي عربي إن "المصابين أحيانا يتخوّفون من الذهاب للمستشفى الحكومي، فيصلون في وقت متأخر جدا مما يؤثر على فرص نجاتهم. كما يتخوّف المرضى من المكوث في مكان يتجمّع فيه كثير من مرضى كورونا بحالات حرجة رغم قيام الكادر الطبي والتمريضي بعمله والعلاج وفق البروتوكولات الدولية. ولكن طبعا تحدث أحيانا بعض حالات إهمال بسبب عدد المصابين الكبير".
ويوضّح الطبيب أن "الحل الوحيد" الآن في العراق هو الوصول إلى ما بات يعرف بالـ"المناعة المجتمعية" من خلال التلقيح. ويقول: "كان العراق يعاني في السابق نقصا في عدد أسرة العناية بمرضى الجهاز التنفسي، ولكن تمكّن خلال فتره قصيرة جدا خلال وباء كورونا من توفير 15 ألف من هذه الأسرّة. إلا أن زيادة الإصابات أمر مقلق جدا؛ فكلما تزداد الإصابات، تزداد الحالات الحرجة التي تحتاج لمثل هذه الأسرة، وبالتالي نحتاج إلى التوسع في هذه الوحدات".
"نتوسّل الناس كي يأخذوا اللقاح"
يوم 21 أبريل/نيسان أعلن في العراق، ذي الأربعين مليون نسمة، أن عدد المصابين بفيروس كورونا قد تجاوز حاجز المليون، في حين تجاوزت الوفيات الـ15 ألف شخصا.
تحدثت مع الطبيبن، حنين وعبّاس، لأفهم سبب هذا العدد الكبير من الإصابات الذي يجعل العراق أكثر دولة عربية تسجيلا للإصابات بفيروس كورونا - وفقا للأرقام الرسميّة.
التفسير الأساسي لذلك هو ذاته الذي يشرح انتشار العدوى في بقية الدول العربية، فكثير من العراقيين ليسوا قادرين اقتصاديا على شراء معدات الحماية أو الالتزام بالتباعد الاجتماعي، إلى جانب عدم تصديق شريحة واسعة لجدية خطر الفيروس.
وتقول الدكتورة حنين إن "العراق بلد منهك اقتصاديا لذلك من الصعب أن تنجح إجراءات الإغلاق لأن أهل القوت اليومي يجب أن يشتغلوا. ليس كل الناس موظفين برواتب من الحكومة لذلك يضطرون للخروج والعمل. وهؤلاء غير قادرين على تأمين وسائل الحماية الشخصية (كمعقم اليدين وقناع الوجه) التي تعد رفاهية بالنسبة لهم".
وكانت الحكومة قد أعلنت مع بداية شهر رمضان عن مجموعة إجراءات منها فرض حظر تجول جزئي بعد الإفطار، وحظر شامل أيام الجمعة والسبت؛ إلزام العاملين في المستشفيات والمراكز الصحية جلب ما يثبت خلوهم من المرض؛ فحص المرضى الداخلين وكل مرافقيهم باختبار كوفيد PCR؛ الدفع نحو تلقيح العاملين في المحلات والمطاعم والمولات والمعامل والمصانع. كما أعلنت الحكومة عدم السماح بمراجعة الوزارات والدوائر المكتظة، وعن حملات تلقيح للمدرسين والطلبة.
ومع صعوبة فرض إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي، يبدو أن كثيرا من العراقيين غير مقتنعين بأخذ اللقاح.
تناوب الطبيبة حنين إلى جانب عملها ضمن فريق منظمة أطباء بلا حدود في أحد مشافي العزل، في مركز صحي، وتقول إن فريقه الطبي "يتوسّل" الناس لأخذ اللقاح، وبالكاد ينجح في إقناع عدد من الأشخاص بذلك، وغالبا ما يكون هؤلاء من أقارب الكادر الصحي "لأنهم على درجة اطلاع أكبر ولديهم ثقة أكبر".
وتقول إن من يأخذ جرعة اللقاح يعمل على نشر صوره على فيسبوك وإنستغرام لإظهار إقدامه على أخذ اللقاح وبالتالي تشجيع الآخرين.
وكان العراق قد بدأ برنامج التلقيح مع نهاية شهر مارس/آذار.
ويلاحظ الطبيب عباس الطعّان أن كثيرين يرفضون أخذ لقاح أسترازينيكا، ويقول إن هناك "أزمة تسبب بها الإعلام" فعندما وردت أخبار بأن بعض دول أوروبا أوقفت استخدام أسترازينيكا أصبح العراقيون يرفضون أخذ هذا اللقاح ويشترطون لقاح فايزر للموافقة على التطعيم.
"نجد مراكز اللقاح التي تقدم لقاحي سينوفارم الصيني وأسترازينيكا البريطاني فارغة، في حين أن طوابير من الناس تتجمع عند مراكز فيها لقاح فايزر.
وكانت بعض الدول قد علّقت استخدام لقاح أكسفورد-أسترازينيكا عقب انتشار تقارير عن تعرض عدد من الأشخاص الذين حصلوا عليه لجلطات، رغم أن البيانات التي قدمتها شركة أسترازينيكا توضّح حدوث 37 حالة تجلط في الدم بين 17 مليون شخصا تلقوا اللقاح.
ويوم 23 أبريل/نيسان أعلن وزير الصحة، حسن التميمي، عن تعاقد الوزارة مع شركة فايزر للحصول على أربعة ملايين ونصف جرعة إضافية من اللقاح.
"كثيرون ينظرون لنا كمقصّرين"
لم تمض أيام ثلاثة على إعلان المليون إصابة في العراق، حتى وقعت فاجعة في مستشفى ابن الخطيب في العاصمة حيث يُعالج مرضى كورونا؛ إذ اندلع حريق يوم 25 أبريل/نيسان أودى بحياة ما لا يقل عن 82 شخصا وإصابة 110 آخرين.
أعلن حداد عام وأوقف رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، وزير الصحة عن العمل وأحاله للتحقيق.
وعن الضغط النفسي جراء العمل، تقول الطبيبة ذات الثلاثين عاما: "من المحزن أن كثيرين ينظرون لنا كمقصّرين. ربما هناك تقصير لكننا نعمل ضمن الإمكانيات، أما المريض وأهله فلا يرون أمامهم إلا الممرض والطبيب".
كنا خرجنا في عدة مظاهرات أمام وزارة الصحة - مرة خرجنا أثناء الوباء - بسبب قلة الإمكانيات وللمطالبة بتعيين أطباء فالمراكز الصحية بحاجة إلى أن ترفد بتعيينات جديدة".