(الأخبار اللبنانية)
يقبع أكثر من 3 مليارات إنسان اليوم في منازلهم، ليس فقط لأن السلطات أمرت بذلك، ولا لأن هذه الخطة أثبتت نجاحها في كبح انتشار الفيروس، في الحقيقة، نحن خائفون. زعزع «كورونا» صورة التميّز والقوة التي بنتها البشرية لنفسها على مرّ التاريخ. وفي لحظة هجومه الكبير، لم يجد الناس بين أيديهم أي سلاح فعّال، فما كان منهم سوى الاستسلام للواقع المرّ ومشاهدة الحياة من خلف الشاشات والنوافذ، ليتحول كوكب الأرض الى سجنٍ يتم فيه اختبار قدرة الناس النفسية الى حدودها القصوى
بعد ظهور فيروس سارس بين عامي 2002-2003، حصل تفشٍّ محدود للوباء يومها في كندا. وبطبيعة الحال، فُرض الحجر المنزلي على آلاف الأشخاص حينها. وفي محاولة لفهمٍ أكبر لتأثير الحجر على نفسيّة هؤلاء، أجريت دراسة علمية نشرت عام 2007 على 1057 شخصاً ممن لزموا الحجر في مدينة تورنتو. تضمنت التأثيرات الأكثر شيوعاً التي تم الإبلاغ عنها: الشعور بالملل (62%) والعزلة (6٪)، الإحباط/ الانزعاج (54-58٪)، القلق العام (40٪) والوحدة (38.5٪). كان هذا هو الحال على الرغم من أن الامتثال لتدابير الحجر الصحي الكاملة كانت منخفضة، كما تجدر الإشارة إلى أن 5 في المئة من المشاركين في الدراسة شعروا بالسعادة خلال الحجر الصحي.
هناك أيضاً أدلة على أن بعض هذه التأثيرات المنخفضة ظلت قائمة لفترة طويلة بعد انتهاء الحجر الصحي. في دراسة أجريت على أكثر من 1600 شخص من كوريا الجنوبية تم عزلهم استجابة لتفشي فيروس متلازمة الشرق الأوسط التنفسية MERS في عام 2015، وجد الباحثون علامات القلق والغضب من تقييمات التقرير الذاتي. وعلى الرغم من انخفاض نسبة هذه الأعراض بمرور الوقت، إلا أنها بقيت موجودة عند البعض حتى 4 إلى 6 أشهر بعد العزل أو الحجر الصحي.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للاهتمام، هو أن الدراسات وجدت أن تجربة الحجر الصحي أو العزل، قادت الناس إلى تغيير سلوكهم اليومي على المدى الطويل. في دراسة السارس في منطقة تورونتو المذكورة أعلاه، على سبيل المثال، تجنّب ربع المشاركين في الدراسة الأماكن المزدحمة، وتجنب واحد من كل خمسة أشخاص جميع الأماكن العامة في الأسابيع التي تلت رفع الحجر الصحي. كذلك وجدت أدلة أخرى من تورنتو خلال هذا الوقت، أن الأفراد الذين أُلزموا بالحجر الصحي، استغرقت عودتهم إلى السلوك الطبيعي حول غسل اليدين والتفاعل بين الجماهير عدة أشهر، وفي بعض الحالات «تم تغييرها بشكل دائم».
في مقابلة أجرتها «الأخبار» مع الدكتورة في علم النفس التحليلي والمرضي هادية محمّد، وفي محاولة لفهم أعمق للتأثير النفسي للحجر الصحي على الأفراد بسبب كورونا، تقول محمّد «إن الأفراد الذين أمضوا ويمضون فترة الحجر وحدهم، معرّضون لتبعات نفسية أكثر من غيرهم، وخصوصاً إن كانوا ممن لديهم بالأصل مشاكل في التصالح مع الذات، فأتى الحجر هنا ليفرض عليهم وحدة إجبارية». وعلى الرغم من أن العديد من الأشخاص استطاعوا الاستفادة من وقتهم في الحجر، وايجاد معنى لحياتهم «بعيداً عن الآخر»، إلا أن هناك أفراداً كثراً «شكّل الحجر لهم أزمة حقيقية، وبدأت ملامح الاكتئاب بالظهور عليهم».
وفي معرض إجابتها عن تبعات الاستخدام الهائل للإنترنت في تسهيل اللقاءات والعلاقات عبر الشاشات، تقول محمّد إن «العلاقات الإنسانية والاجتماعية بالغة الأهمية للصحة النفسية، وعلى الرغم من أنه يجب متابعة كل حالة بنفسها ودراسة بنيتها النفسية من دون الذهاب الى التعميم، إلا أنه يصح القول هنا إنّ حصر العلاقات واللقاءات ولمدة طويلة عبر الشاشات ليس بالأمر الصحّي بتاتاً، لكنه يبقى أفضل من الانقطاع النهائي عن المجتمع، كما أنه يؤمن استمرارية التفاعل مع الآخرين ولو بشكل محدود. أما سلبياته فتتمثل بخلقه حاجزاً بين الناس، وهو تواصل غير مباشر لا يؤمن للفرد رؤية ردات فعل الآخرين ولا حركة أجسادهم وانفعالاتهم، وهو على المدى الطويل خطير بسبب محدوديته».
أظهرت دراسات أن تجربة العزل قادت الناس إلى تغيير سلوكهم اليومي على المدى الطويل
في تقرير نشرته صحيفة «ذي غارديان» البريطانية، ظهر أن خطط الإغلاق التام والحجر الصحي في العديد من الدول، «رفعت نسب العنف المنزلي الى أرقامٍ مأسوية». المشكلة الأساسية هنا بحسب التقرير، أن «النساء والأولاد والذين كانوا يعانون من العنف المنزلي قبل كورونا، باتوا اليوم غير قادرين على الفرار من تلك الوحوش المنزلية بسبب عمليات الإغلاق والحجر». وعلى سبيل المثال، أفادت الحكومة الإقليمية الكتالونية في إسبانيا بأن المكالمات إلى خط المساعدة الخاص بها ارتفعت بنسبة 20 في المئة في الأيام القليلة الأولى من فترة الحجر. في قبرص، ارتفعت المكالمات إلى الخط الساخن بنسبة 30٪ في الأسبوع الذي يلي 9 آذار، عندما سجلت الجزيرة أول حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا. في حين يفيد تقرير أعدّه صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية، أن من المتوقع حدوث ما لا يقل عن 15 مليون حالة أخرى من حالات العنف المنزلي في جميع أنحاء العالم هذا العام نتيجة للقيود الوبائية، فيما المؤشرات الجديدة ترسم صورة قاتمة لحياة النساء خلال العقد المقبل.
في هذا الشأن، تلفت الدكتورة محمّد إلى أنّ «وجود الأشخاص في منزلٍ واحد وصغير في أحيانٍ كثيرة مع أفراد العائلة لهذه الفترة الطويلة هو أمر جديد وليس معتاداً. وإذا ما أضفنا إليه الصعوبات الحالية الجديدة بسبب الوباء مثل البطالة والظروف المعيشية الصعبة، فستؤدي في نهاية المطاف الى إبراز المشاكل النفسية الى السطح. إن الحياة المشتركة وخصوصاً مع وجود الأولاد، تتطلب المزيد من التعاطف والصبر، غير أن هذه الصفات ليست موجودة لدى الجميع، وبشكل كبير عند من يعانون من مشاكل نفسية بالأساس. إن الحدّ من الحرية والضغط المفروض حالياً وتعدّد مصادر الأخبار وكثرتها، والخوف من الموت والمرض هي أمور ترفع منسوب العنف. ورغم أن كل ما سبق ليس مبرراً للعنف، إلا أنها الأسباب».