(جريدة الأخبار اللبنانية)
لن تكون جائحة «كورونا» التحدّي الأصعب للقطاع التعليمي. المشهد المرتقب، مع انطلاق العام الدراسي المقبل، يشي بأن الأزمة الاقتصادية والمالية ستطغى على بقية التحدّيات، وأن التعليم عن بعد أو التعليم المدمج سيتحول إلى ضرورة ملحّة وحاجة إنقاذية
التعليم الخاص الذي يضمّ ثلثَي تلامذة لبنان، وتحوّل في السنوات الاخيرة إلى قطاع يدرّ عائدات وفيرة ويضمّ كارتيلات تتحكّم بالقرار التربوي، سيواجه أزمة لم يعرفها من قبل. إذ إن استئناف التعليم الحضوري، في ظل هذا الوضع المالي والاقتصادي، سيرفع الأقساط المدرسية حتماً، بما يتناسب مع التضخم في النفقات التشغيلية وتسيير عمل المدارس بصورة طبيعية... وتحقيق الأرباح.
وسيشكل ارتفاع سعر صرف الدولار والرفع المرتقب للدعم عن الوقود الحجة الأقوى للمدارس لرفع أقساطها ضعفين، وربما أكثر في حال اللجوء إلى زيادة رواتب المعلمين والموظفين. وستكون الإجراءات التقشفية والإدارية الخاصة صارمة وقاسية بالتوازي مع ضغوط المرحلة. وقد بدأ عدد من المدارس، فعلاً، بالتفكير في وضع خطة تعليم مدمج للعام الدراسي المقبل (يومان للتعليم عن بعد وثلاثة أيام للتعليم الحضوري)، حتى ولو ذهبت «كورونا» إلى غير رجعة. وربما تقلّص المدارس الحصص الأسبوعية لبعض المواد التعليمية، وتلغي المواد الإجرائية كالموسيقى والفنون والروبوت والتكنولوجيا، بهدف تخفيف النفقات التشغيلية، من دون إغفال أن الأوضاع المتدهورة قد تؤدي الى إقفال بعض المدارس نهائياً. فعلى سبيل المثال، تتخطّى الأسعار الحالية للقرطاسية 9 أضعاف أسعارها السابقة. وفي حالة مدرسة تضم 1000 تلميذ، تصل فاتورة استهلاك الورق والأقلام الى 40 ألف دولار سنوياً، أي 512 مليون ليرة بعدما كانت تساوي 60 مليوناً.
الأمر نفسه ينسحب على مصاريف صيانة أجهزة الطباعة والمختبرات والحواسيب والأجهزة السمعية والبصرية والمولدات الكهربائية ومصادر الطاقة وباصات النقل وتكاليف الوقود للمولدات ومواد التنظيف وغيرها.
رفع الأقساط سيتفاوت بين مدرسة وأخرى. وقد يجنح البعض نحو أقساط خيالية بحجة تفادي العجز المالي، ما سيؤدي إلى خسارة عدد كبير من التلامذة لعدم قدرة الأهالي على تغطية الأقساط الجديدة، ما سيعني صرف مزيد من المعلمين.
هذه الإجراءات التقشفية ستكون لها انعكاسات سلبية على جودة العملية التعليمية في هذه المدارس، لأنها ستحدّ بشكل كبير من الاستخدام الطبيعي للوسائل التعليمية والمخبرية واللوجستية في المدرسة، خشية تعطّلها، وسيستبدل الاستخدام الورقي للكتيّبات والبطاقات التعليمية بملفات رقمية من صيغة pdf، مع تقليل الأنشطة التعليمية اللاصفية التي تتطلّب تكاليف خاصة، فضلاً عن خسارة هذه المدارس عدداً كبيراً من الكفاءات التعليمية التي ستتوجه للبحث عن فرص عمل أفضل داخل البلاد أو خارجها، وبالتالي، ستلجأ إلى الاستعاضة عنها بكفاءات متخرجة حديثاً تحتاج إلى الكثير من الخبرة والتدريب. كل هذا سيدفع بعض المدارس إلى فرض موازنات خيالية، ما يفاقم المشاكل بين المدارس ولجان الأهل.
ولن يكون التعليم الرسمي بمنأى عن تأثيرات العاصفة الاقتصادية والمالية. فإذا كانت الدولة قادرة حتى الآن على دفع رواتب المعلمين ومستحقات المتعاقدين، والتي خسرت ٩٠ بالمئة من قيمتها الشرائية، فإن المدارس الرسمية التي ستشهد نزوحاً لتلامذة المدارس الخاصة إليها، لن تكون قادرة على تلبية متطلبات الصيانة للأجهزة والمختبرات وماكينات الطباعة والمولد الكهربائي وتأمين الوقود والموارد اللوجسيتة الخاصة بالعمليتين الإدارية والتعليمية والصحية وغيرها، وخصوصاً أن صناديق الأهل في هذه المدارس فارغة أساساً، أو أن ما فيها لم تعد له قوة شرائية مقبولة. وهذا سينعكس بشكل كبير على تلبية متطلبات العملية التعليمية، ويؤدي بالتالي الى تدنّي الإنتاجية التعليمية للمدرسة الرسمية.
الإجراءات التقشّفية ستكون لها انعكاسات سلبيّة على جودة العمليّة التعليميّة
بدورهم، سيكون المعلمون الفئة الأكثر تأثراً بالانهيار. وفي وقت لن تتحسن فيه رواتبهم في المدى المنظور، باستثناء بعض المدارس الخاصة المدعومة خارجياً، سيكون التململ من الحضور اليومي الى المدارس سيد الموقف. إذ سيضطر معلم راتبه مليون وثلاثمئة ألف ليرة، كمعدل وسطي، الى إنفاق 500 ألف ليرة شهرياً بدل وقود لسيارته للذهاب الى المدرسة والعودة منها، في حال كان منزله يبعد عن المدرسة نحو ١٠ كلم كمسافة وسطية، فضلاً عن كلفة قطع السيارات وصيانتها. بطبيعة الحال، سيدفع هذا الواقع عدداً من المعلمين الى تقديم استقالتهم من التعليم، وخصوصاً المتعاقدين منهم، والبحث عن فرص عمل أفضل داخل البلاد أو خارجها. وقد بدأ ذلك بالتمظهر من خلال آلاف الطلبات المقدّمة إلكترونياً للتعليم في الخارج، ولا سيما في دول الخليج حيث تراوح الأجور بين 2000 و3000 دولار شهرياً، تبعاً للكفاءة العلمية والخبرة التعليمية.
ميزانية تعليم التلامذة سترتفع بين ثلاثة وأربعة أضعاف على الأقل. فإذا اعتبرنا أن كلفة القرطاسية والألبسة المدرسية والملحقات التعليمية (دفاتر، آلة حاسبة، علبة هندسة،...) لتلميذ واحد تبلغ نحو 500 دولار أي ما كان يساوي 750 ألف ليرة سابقاً، فإن الكلفة توازي اليوم ستة ملايين و400 ألف ليرة، أي ما كان يساوي سابقاً القسط السنوي لثلاثة تلامذة في مدرسة متوسطة. كذلك الأمر بالنسبة الى المصاريف المدرسية اليومية التي ستتضاعف بشكل كبير، إذ لن يقلّ المصروف اليومي للطالب عن عشرة آلاف ليرة كحدّ أدنى لشراء ما اعتاد شراءه في المدرسة من فطور صباحي وعلبة عصير وقنينة مياه ولوح من الشوكولا.