(جريدة القبس)
ما أحدثته جائحة «كورونا» من تغييرات هائلة في العالم، وخسائر اقتصادية ضخمة، ووفيات مروعة، إضافة إلى ما تواصل إفرازه من سلالات متحورة تزيد الصراع على اللقاحات، إلى درجة جعلت دولاً كبرى تخضع مقابل الحصول على التطعيمات، كل ذلك يقود إلى التساؤل: هل ما يحدث هو حرب عالمية ثالثة؟.
أول ما يخطر على البال مقارنة آثار الجائحة بآثار الحربين العالميتين السابقتين، ليشعر المرء بالصدمة حين يكتشف أن ما خلّفته جائحة «كورونا» أكثر ضرراً بكثير مما نتج عن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحربين العالميتين.
فوباء «كوفيد - 19» شمل العالم كله، وخلّف حتى الآن أكثر من 3.8 ملايين وفاة ونحو 180 مليون مصاب، وحين يضاف إلى ذلك تزايد وتيرة الإصابات وتعقّد مسالة المتحورات يمكن التوصّل إلى خطورة ما يخبّئه الفيروس مستقبلاً.
الوباء القاتل لا يستقر في مكان، وسلالاته تنتقل من دولة إلى أخرى، وآخرها متحور «دلتا».
كيف بدأ سباق اللقاحات؟
بعد أكثر من 8 أشهر على تفشي الفيروس الذي روع العالم، احتدم السباق من أجل تطوير لقاح ضد «كورونا»، وكانت روسيا أول دولة تعلن التوصل إلى لقاح مضاد، لتعقبها الصين بإعلانها منح براءة اختراع للقاح جديد، وقابل هذين الإعلانين تشكيك غربي كبير في سلامة اللقاحين، لتتسع بعد ذلك قائمة الدول الساعية إلى ابتكار لقاحات وتستثمر ملايين الدولارات لـحجز جرعات حتى قبل ظهور النتائج النهائية، كان منها الولايات المتحدة (فايزر وموديرنا وجونسون) وبريطانيا (أسترازينيكا - اوكسفورد).
وفي مرحلة لاحقة، شهدت هذه البلدان في ما بينها «حرباً مستعرة على اللقاحات»، استُخدم فيها كل الأسلحة، سياسياً ودبلوماسياً، وضغطاً عسكرياً إن لزم الأمر، وفي المقابل، كانت الدول الأخرى خاضعة لأميركا وبريطانيا وروسيا والصين، التي تنتج أهم اللقاحات في العالم، من أجل أن تتجنّب تزايد الوفيات وتفشّي الإصابات وانهيار الاقتصاد، إضافة إلى توابع الجائحة التي تحوّل كل دولة تقع فريستها إلى سجن كبير، وتفرض الإغلاق وأنماطاً جديدة من التعايش، والتباعد الاجتماعي في الأمكنة العامة ووضع الكمامات.
البحث عن منشأ الفيروس
واستتبعت حرب اللقاحات، بمواجهة حول نشأة الفيروس، فقد ظهرت اتهامات لمعهد ووهان لعلم الفيروسات في الصين بأنه الموطن الأول للوباء، وكلفت المنظمة الدولية فريقاً من العلماء بالتحقيق في مصدر الوباء، وسافر فريقها إلى ووهان، وعقب قضاء 12 يوماً هناك، وزيارة العديد من المواقع، بينها مختبر ووهان نفسه خلصوا إلى أن نظرية التسرب في المختبر «مستبعدة إلى حد بعيد».
لكن مجموعة بارزة من العلماء انتقدت تقرير المنظمة لعدم أخذه نظرية التسرب من المختبر على محمل الجد، وصدرت خلال العام الماضي دراسات حول المنشأ الأصلي للوباء، تضاربت بين فرضية انتقال الفيروس من الحيوان إلى الإنسان، وأخرى أشارت إلى تسربه من مختبر.
إلا أن نظرية التسرب عادت خلال الأيام الماضية لتطرح من جديد بعد أن أشار تقرير أعده مختبر «لورنس ليفرمور» الوطني في كاليفورنيا، التابع للحكومة الأميركية، إلى أن فرضية تسلل الفيروس من مختبر في ووهان معقولة وتستحق مزيداً من التحقيق.
عزز من ذلك طلب قادة قمة مجموعة السبع في قمتهم الأخيرة منظمة الصحة العالمية بإجراء تحقيق جاد حول منشأ الفيروس المستجد، كما طالب الرئيس الأميركي جو بايدن الصين بالسماح بدخول محققين دوليين إلى مختبر ووهان؛ لتحديد ما إذا كان ظهور فيروس كورونا طبيعيًّا أم نتيجة خطأ معملي.
وكان بايدن دعا الأجهزة الاستخباراتية الأميركية في مايو الماضي إلى إعداد تقرير حول منشأ الوباء في غضون 90 يوماً.
من جهتها، ردت الصين بأن تسييس منشأ «كوفيد-19» سيعرقل مسيرة مواجهة الوباء علميا ويُدخل العالم في مأزق.
ويرى مراقبون أن العودة إلى البحث عن منشأ «كورونا» وطرح نظرية تسرب الفيروس من مختبر ووهان للنقاش مجدداً يدخل في ممارسة ضغوط على الصين في سياق الحرب الدائرة بين الدول العظمى، التي فرضتها الجائحة، وكان السباق على اللقاح أحد فصولها.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية المدمرة؟
وفي الخلاصة، فإن هذا الفيروس الخطير الذي لم يسبق له مثيل وضع العالم في مرحلة مأساوية تشبه الحربين العالميتين السابقتين، ولا يمكن وصف المعاناة التي يعيشها البشر قاطبة، وتداعيات الجائحة التي تزلزل دولاً كثيرة، إلا بأنها حرب عالمية ثالثة، لكنها لم تنته بعد، وخسائرها البشرية والاقتصادية المدمرة مستمرة، وستظهر آثارها في نظام عالمي جديد تسقط فيه دول وتنهض أخرى، تبعاً لمصالح إستراتيجية وجيوسياسية تحددها أطراف الحرب.
كما أن تلك الحرب لن تنتهي بالسيطرة الكاملة على الفيروس، حيث ستكون هناك عواقب عميقة على المدى الطويل، إن كانت لجهة انهيار اقتصادات أو تغيّر أنماط مجتمعات بأكملها، أو تأثر شعوب بفقدان مقربين كثيرين لهم بسبب الوباء، أو فقدان وظائفهم بسبب الأزمة المادية، أو التأثر نفسياً بفترات الإغلاقات والحرمان من التفاعل البشري مع الأقرباء والأصدقاء.