(راصد الخليج)
حين وضع الكاتب الأميركي الشهير، سيروس سالزبيرجر، كتابه الأهم "آخر العمالقة"، بنى اختياراته للشخصيات التاريخية على "القرارات".. وحده القرار يبقى عنوانًا للمسيرة، ويزين صدر صفحات التاريخ، وحده القرار يمنح الدفعة للتفاعل الخلاق بين الشخصية التاريخية وجماهيرها، وحده القرار في اللحظة الفارقة يمكنه إنقاذ حاضر أو كتابة مستقبل.
للآسف الشديد لم يتعايش "سالزبيرجر" مع الواقع العربي الحالي، وإلا لكانت أمامنا كتب، عن الأقزام والمهاويس والمخابيل، ممن يملئون السماء العربية بالجنون، ويمثلون أسوأ مصير حال استمرارهم على مقاعد الحكم والسيطرة في الدول المنكوبة بهم، وبقرارات أبسط ما توصف به إنها: خسائر مجانية وانتحار طوعي.
في اللحظات الحاسمة، بالذات، تجد الأمم ذاتها أمام تحديات كاشفة، بقدر ما تحمل من عواصف، تستطيع التفرقة بين قيادة واعية، تتفاعل بمرونة وكفاءة أمام عوامل ليست كلها داخلية أو تحت السيطرة، وبين قيادات تذهب الصدمات بقدرتها على الفعل، وفي أحيان أخرى تذهب بعقلها ويغلق إمكانيات الحركة أمامها، وبالتالي تترك الدولة في حالة تيه، وسط صحراء بلا نهاية معروفة.
القرار السعودي، الأسير، في هذه اللحظة كليًا، للضربات الناتجة عن انهيار أسعار النفط وتفشي وباء كورونا، يبدو وكأنه ابن شرعي لهزيمة مبكرة جدًا، وقعت قبل أن يصل التحدي إلى مرحلة المواجهة الفعلية، سقط قبل المعركة، أو رسب حتى قبل أن يحين موعد الامتحان.
الاقتصاد السعودي، القائم على ريع النفط أساسًا وفقط، دخل معركة تكسير عظام تنفيذًا لتوجيهات خارجية، كانت تنتظر تعجيز روسيا وإيران وفنزويلا، فإذا بجائحة كورونا تسقط الكل في الخسارة الواضحة، ومع امتلاك أعداء واشنطن لاقتصاديات متنوعة، فقد حملت المملكة كل الخسائر، وباتت تنزف من جهة وتتأكل من أخرى، كلما استمر تفشي "كورونا" فإن الاقتصاد التابع للخارج سيكون في حالة تجمد، وإذا عاد العالم للعمل، فإن أسعار النفط لن تعود لمستوياتها في نهاية العام الماضي.
لكن هل بدأت المأساة فعلًا مع الفيروس الغريب.. الحقيقة أن الفيروس كان كاشفًا لوجود القنبلة، لكنه ليس من وضعها أو فجرها، قبل انتشار الوباء كانت الموازنة السعودية تعاني الأمرين من تأثيرات ومصروفات حرب اليمن، والتكاليف الهائلة لأحلام التمدد العربي المسيطرة على محمد بن سلمان، وأيضًا للعامل الأهم، فشل خطة التحول الوطني 2020، والتي يحاول الإعلام الرسمي نسيانها تمامًا.
ولحديث الأرقام السعودية شجون أعمق، إذ أن الموازنة الضخمة، تجاوز الإنفاق فيها ترليون ريال، لكنها شهدت نموًا بنسبة 1.1% فقط، مدفوعًا بنمو للقطاع غير النفطي بلغ 2.5%، مع توقعات متشائمة حيال الأرقام الواقعية بنهاية العام.
الخطة التي كانت "فكرتها" و"تكلفتها" كفيلتان بمواجهة هذا الوباء الذي يضرب جسد اقتصاد العالم وقلبه وروحه، في آن، خرجت من رحم رغبة قديمة تتجدد بتقليل الاعتماد على البترول، أو على الأقل استخدام بعض العائدات الهائلة في دفع تكلفة الانتقال لعصر جديد.
الإنفاق العام بموازنة العام الحالي، انخفض أساسًا، قبل كارثة "كورونا"، وأصابه الفيروس بضربة قاتلة، ويمكننا توقع الأسوأ مع فشل اتفاق أوبك+1 الأخير، والذي نص على أكبر خفض تاريخي في إنتاج النفط، حيث لا تزال الأسعار في غرفة الإنعاش، وقبلها بالطبع اقتصاد المملكة.
الأسواق العالمية لم تفق بعد من صدمة الإغراق بكميات هائلة من النفط الخام، ثم جاءت أزمة كورونا لتكنس كل آمال معاودة الارتفاع، ومع تراجع الاستهلاك في أوروبا، بالإضافة لدخول فصل الصيف قليل الاستهلاك في الغرب، فإن العامين الحالي والمقبل سيشهدان مأساة تنتظر عقلًا يجيد البحث عن حلول، ويستطيع تنفيذها، وبإمكانه إقناع المجتمع بتحمل تكاليفها الكبيرة والمرهقة.
وبالطبع فإن دولة ما قررت التضاد مع الأماني الطبيعية لشعبها، ليس لها أن تحلم بتضحيات وتفاني من الشعب في إطار خطة تحول وطني إلى عصر جديد، ليس لها أن تتمنى مشاركة الناس في العبء، وليس لها أن تظن واهمة بنجاح في نهاية الطريق.. فهذا الطريق له نهاية واحدة، انفصال مروع بين الشارع وقصر الحكم، يزيد الشكوك –العميقة أصلًا- بقدرة الأمير الحالم على صعود كرسي الحكم.
فشلت كل خيارات ولي العهد، الأميركية والصهيونية، خسر المستقبل مثلما خسر الحاضر، وبدد استثماراته في المملكة، بالوقت ذاته الذي يتبدد فيه حلفائه بالمنطقة.