سركيس ابوزيد - موقع "العهد
أحدث فيروس "كورونا" تغييرات وتحولات ھائلة. بعد انتھاء ھذا الكابوس لن يعود العالم كما كان، سيكون مختلفًا بشكل كبير لكن بصورة غير معروفة حتى الآن. إنھا أزمة عالمية غير مسبوقة، ستعيد رسم خريطة العالم الجيوسياسية وسنشهد تكتلات وتحالفات دولية ربما تكون في بعضھا على نقيض كبير مع تلك القائمة حاليًا والموروثة من نتائج الحرب العالمية الثانية وانھيار الاتحاد السوفياتي. معالم المرحلة القادمة بدأت بالظھور باتجاهين متناقضين:
الاول: تجديد العولمة
الوباء وضع العالم بأسره على صفيح ساخن، من شأنه أن يسھم في تعديل النظرة للنظام العالمي، لا لجھة نسفه بل لجھة تعزيزه وتقويته أمام الدعوات الشعبوية والقومية لسياسات أكثر إنغلاقا، ومن دلائل هذا الرأي:
- أن النظام الدولي الحالي لم يتشكل بفعل الأوبئة والأمراض، ولكن بسبب تحولات في القوة العسكرية، حيث صعدت الولايات المتحدة وفرضت رؤيتھا الليبرالية على العالم. باختصار، "كورونا" لن يغيّر في طبيعة النظام العالمي الحالي، الذي سيبقى ليبراليًا منفتحًا، إلى حين صعود قوى أخرى تھدمه.
- الأزمة الحالية كشفت أن العالم بأمس الحاجة إلى أن يكون متكاتفًا، وھذا ما يحدث حاليا. العالم يبدو مترابطًا في مواجھة فيروس "كورونا" أكثر من أي وقت مضى، وعلاجه إستنفر كل الطاقات، ونبه العالم إلى ضرورة مزيد من التكاتف لمواجھة تحديات محتملة مشابھة، ولا يمكن أن ينجو كيان أو تكتل بمفرده، وربما تقل المواجھات لصالح التعاون في تقدم البحث العلمي... من غير المتوقع أن يتفكك العالم إلى قرى معزولة، لكن الحكمة المستخلصة: لا أحد بمقدوره أن يقف وحيدا أمام ھذه الجائحة التي قد تتكرر مستقبلًا.
- العولمة لن تنتھي ولكنھا ستتبدل. لم يعد ممكنا التراجع عن العولمة بسبب تنامي ثورتي الاتصال والمعلوماتية والاعلام، ما سيؤدي الى انھيار الديكتاتوريات المتبقية في العالم، وسيعلو شأن المنظمات الدولية العابرة للحدود، مع تغيّر النظام التعليمي ونظم الاقتصاد والصحة في العالم كله.
ھناك كثيرون ممن يتوقعون انتھاء العولمة، باعتبار أن دول العالم بدأت بالانكفاء على نفسھا بدلا من انفتاحھا على العالم. لا شك أن العولمة بمفھوم سيطرة اقتصاديات السوق الحرة قد انتھت إلى غير رجعة، لكن الثورة المعرفية وثورة التكنولوجيا ربطت العالم بشكل لا يمكن تفكيكه، ومن الضروري أن تمتد وتتبدل العولمة لتشمل التعاون في مجالات كالوقاية الصحية ومكافحة الأوبئة، وأن تخصص الموارد الكافية لذلك بدلا من تخصيصھا لمجالات كالتسلح. لم يخلق فيروس "كورونا" بسبب العولمة، لكن العولمة ھي من ستنجح في محاربته من خلال بلورة رؤية فاعلة، مبنية على انعدام الأنانية والتفاف الأفراد نحو العمل الجماعي وتشارك المعلومة والمعرفة، تماما كما نجحت في الخروج من أزمات مشابھة في العقود الماضية.
- الاقتصاد سيعاود الصعود والتعافي، وإن كان من الصعب التكھّن بمدى ومدة ذلك من دون معرفة أمد الأزمة نفسھا وحجم الأضرار التي ستنتج عنها. كما أنه سيكون ھناك تفاوت بين الدول فيما يتعلق بمدى وسرعة تعافيھا من الآثار الاقتصادية لھذه الأزمة بحسب متانة اقتصاداتھا ومرونتھا.
- الشكوك حول قوة الحضارة الغربية بعد فيروس "كورونا" مبالغ فيھا. فقوة العلم والمعرفة التي تشكلت خلال قرون قادرة على التغلب على ھذه الأزمة الصعبة.
الثاني: نحو نظام انساني جديد
يواجه هذا الرأي وجهة نظر أخرى تتوقع أن الوباء سيغير العالم باتجه بناء نظام انساني جديد، من معالمه:
- ھيبة الولايات المتحدة سقطت، وھناك مؤشرات الى احتمال تمرد ولايات وانشقاقھا عن الاتحاد الفيدرالي الأميركي. كما أن ھذه الأزمة تتيح لكل الدول التي تدور في فلك الولايات المتحدة الأميركية إمكانية الخروج من "التابو" الأميركي الى ممارسة حرية القرار والسيادة في منأى عن التأثير الأميركي.
- من جهة نشهد تعزيز الاتجاه نحو إلغاء العولمة. لكن من جهة اخرى يمكن أن تظھر أشكال جديدة من العولمة. ومن غير المحتمل أن تكون ھناك صورة شاملة موحدة للتأثير الجيوسياسي للأزمة، وما ينتج عنھا من تطورات في النظام العالمي والتنافس بين الدول.
- من المرجح أن يسير، جنبًا الى جنب، التعاون والصراع المفتوح بين القوى العظمى، خاصة بين الولايات المتحدة والصين. وقد يتسبب "كوفيد ـ 19 "في تسريع إنتقال مركز العولمة من الولايات المتحدة الأميركية إلى الصين. الولايات المتحدة سيكون أمامھا خياران: إن كان ھدفھا الرئيسي ھو ضمان إستمرار ھيمنتھا على العالم، فسيتعيّن عليھا الانخراط في صراع جيوسياسي مع الصين. أما إذا كان ھدفھا تحسين ظروف عيش الشعب الأميركي الذي تدھورت أوضاعه الاجتماعية، فسيتعيّن عليھا التعاون مع الصين.
- العالم سيتجه نحو مزيد من الانكفاء القومي، والعزلة الاستراتيجية، وسوف تسعى الحكومات الى تعزيز صلاحياتھا وقدراتھا لمواجھة أي أخطار مشابھة في المستقبل، وذلك من أجل حماية مواطنيھا.
- ھيبة الاتحاد الأوروبي سقطت، ومن المتوقع أن تكون إيطاليا أول المنفكين عنه لتتبعھا دول اوروبية أخرى، لأنها وجدت نفسها وحيدة في مواجه الكارثة. وقد جاءتھا المساعدات من خارج الاتحاد الذي يفترض أن يكون الناصر لكل أعضائه، فإذ بالصين وروسيا تنجدان إيطاليا.
- الخلافات داخل مجلس الأمن التي كانت سائدة ولا تزال وندرة الموارد المتاحة، من شأنھا إضعاف قدرات الأمم المتحدة للاضطلاع بدورھا في صيانة السلم والأمن الدوليين.
- سيسرع الوباء من التحول الاقتصادي الحاصل في العالم، بعيدًا عن مركزية النظام الأميركي في النظام الدولي.
ستسعى الشركات الكبرى لإعادة النظر في أساليب الإنتاج وطرقه بما يحمي مصالحھا ويحمي حقوق موظفيھا، وسيؤدي ذلك الى إعادة تعريف الإنتاج والاستھلاك في جميع أنحاء العالم، وستنھار شركات عديدة، وترتفع البطالة، وسيفلس أفراد كثيرون، وستتعرض دول كثيرة لھزات اقتصادية واجتماعية عميقة. الاقتصاد العالمي دخل في حالة من الركود الشديد، وستكون آثاره مؤثرة لسنوات وعقود.
- التحدي التاريخي الذي يواجه قادة العالم في الوقت الراھن ھو إدارة الأزمة وبناء المستقبل في آن واحد، والفشل في مواجهة ھذا التحدي قد يؤدي إلى إشعال العالم وانهيار المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية، بدءا من منظمة الصحة العالمية وانتھاء بالاتحاد الأوروبي. إن تآكل ثقة الدول، بقدرة المؤسسات الدولية والإقليمية على التعامل مع ھذه الأزمات وتخفيف أضرارھا سيكون له تبعات سلبية على مستقبل التعّددية والتعاون الدولي.
عالم ما بعد كورونا بين خيارين: إما بناء نظام عالمي جديد أكثر انسانية ومساواة وتعاونًا، أو تجديد العولمة السائدة بعد اصلاح الكوارث التي نتجت عن رأسماليتها المتوحشة واستكبارها. من يحسم الاتجاه بينهما؟ صراع القوة أم قوة الحق والابداع والمقاومة الشاملة؟ البشرية تنتظر.