نقلًا عن موقع "العهد" الاخباري - عادل الجبوري
مرت حوالي خمسة شهور على بداية ظهور فيروس كورونا لأول مرة في مدينة ووهان عاصمة اقليم هوباي الصيني، وخلال هذه الفترة الزمنية القصيرة استشرى الفيروس وانتشر على نطاق واسع، ليتحول سريعا الى وباء ثم الى جائحة، بعد أن وصل الى أكثر من مائة وخمسين بلدا في مختلف قارات العالم، وأصاب حوالي مليوني شخص، وتسبب بوفاة أكثر من مائة وخمسين ألفًا، فضلًا عن تعافي ما يتعدى النصف مليون شخص.
ولا شك أن تفشي فايروس كورونا بهذه الصورة المرعبة أدى الى حدوث شلل شبه تام في مجمل حركة الاقتصاد العالمية، فضلًا عن عموم قطاعات الاقتصاد الوطني في البلدان التي ضربتها الجائحة، وهو ما أدى الى فقدان ملايين الأشخاص لوظائفهم، وارتباك الأوضاع الحياتية لملايين أخرى، الى جانب تعطل مختلف المؤسسات التعليمية والتربوية ومؤسسات ذات اختصاصات أخرى متنوعة. وأكثر من ذلك، أحدث تغيرات دراماتيكية سريعة وغير مسبوقة في انماط الحياة لمختلف المجتمعات، مع استمرار تلك التغيرات بوتيرة متصاعدة ومتسارعة ارتباطا بالاهتزازات الاقتصادية العنيفة، وسرعة تفشي وانتشار الجائحة، والعجز عن التوصل الى معالجات صحية ناجعة تساهم في الحد من ذلك الانتشار السريع.
وفي خضم تلك الأوضاع والظروف المضطربة الى حد كبير، لوحظ أن هناك أطرافًا تعاطت مع كورونا من زاوية اقتصادية سياسية، وراحت تحاول تحقيق مكاسب على حساب الاخرين، وتنتقم من خصوم واعداء لها في ذروة الكارثة، بينما تعاطت أطراف أخرى مع الكارثة من زاوية انسانية، واضعة كل الاعتبارات والحسابات والمصالح السياسية جانبًا. وكان واضحًا أن الولايات المتحدة الأميركية مثلت المصداق الأوضح والأبرز للنموذج الاول، ويكفينا للتدليل على ذلك ما ردده الرئيس الاميركي دونالد ترامب من تصريحات وأقوال وتغريدات بعيدة عن واقع وجوهر الازمة - الكارثة.
وبحسب ما يرى البعض، فإن "ترامب الذي وصف فيروس كورونا ذات مرة بأنه خدعة، استمر في تجاهل خطورته رغم تفشيه الكبير في أنحاء العالم ووصوله إلى الأراضي الأميركية ما اضطره، في بداية الأمر، إلى اتخاذ إجراءات، أكد خبراء أنها جاءت متأخرة لجهة الحد من انتشار الفيروس، لكن الكارثة الموازية لتعامله الفاشل مع الفيروس لم تنحصر بشقها الصحي وتداعياتها على الأميركيين، بل تجاوزته إلى تدمير سمعة الولايات المتحدة عالميا، وخلق أزمة ثقة بين واشنطن وشعبها وحلفائها".
ولعل ما يلفت الانتباه ويثير التساؤل والاستفهام، هو أن كورونا اجتاح دولًا ومجتمعات غنية ومتقدمة في المجالات العلمية والطبية والاجتماعية، في مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا على وجه العموم، بينما كان انتشاره وتفشيه في الدول والمجتمعات النامية ذات الامكانيات والقدرات البسيطة والمحدودة، أقل بكثير، رغم أن الحديث عن نظرية المؤامرة من قبل أطراف دولية كبرى، لم يتوقف منذ الأيام الأولى لظهور الفايروس.
ومع أن الخبراء والمختصين يتحدثون عن جملة عوامل وأسباب تقف وراء ذلك الانتشار السريع، الا أن الاستهانة بالوباء في بادئ الامر وعدم تقدير الموقف بالشكل الصحيح من قبل مختلف حكومات البلدان الاوروبية وانتهاج ما يسمى بنظرية مناعة القطيع (Herd immunity)، أدى الى خروج الأمور عن السيطرة، على العكس من بلدان أخرى أصابها الوباء، كما هو الحال مع الصين، التي انتهجت نظرية التباعد الاجتماعي (Social distancing)، وبالتالي نجحت الى حد كبير في احتواء الوباء - الجائحة.
ورغم أن الصورة تبدو مشوشة وغامضة الى حد كبير، ويبدو أنها ستبقى كذلك الى أمد غير معلوم، الا أن الحديث عن عالم ما بعد كورونا بات يفرض نفسه على الواقع مبكرا، ويبدو أن جائحة كورونا ستغير خارطة التوازنات والعلاقات والمعادلات الدولية على نطاق واسع، افقيًا وعموديًا، ولعل هذه المحطة التاريخية المهمة والخطيرة تشبه في الكثير من تفاصيلها وجزئياتها محطة نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، ومحطة تفكك المعسكر الشرقي وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي، ويبدو أن التحدي الأكبر اليوم هو أمام الولايات المتحدة الاميركية أولا، وأوروبا ثانيًا، سواء ككيان سياسي واحد متمثل بالاتحاد الاوروبي، أو كدول لها ثقلها وحضورها السياسي والاقتصادي الكبير في المشهد العالمي، في مقابل آفاق جديدة تفتح أبوابها أمام المارد الصيني الكبير.
ولعل وزير الخارجية الاميركي الأسبق هنري كيسنجر(97 عاما)، لم يخطئ حينما قال "ان الأضرار التي ألحقها تفشي فيروس كورونا المستجد بالصحة قد تكون مؤقتة، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال عديدة"، مضيفا، ان الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم الآن بسبب الوباء الفتاك، أعادت إلى ذهنه المشاعر التي انتابته عندما كان جنديا في فرقة المشاة خلال مشاركته في الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1944، حيث يسود الآن الشعور نفسه بالخطر الوشيك الذي لا يستهدف أي شخص بعينه، وإنما يستهدف الكل بشكل عشوائي ومدمر، وان قادة العالم يتعاطون مع الأزمة الناجمة عن الوباء على أساس وطني بحت، إلا أن تداعيات التفكك الاجتماعي المترتب على تفشي الفيروس لا تعترف بالحدود".
ولكن استاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد الاميركية ستيفن والت ذهب أبعد مما ذهب اليه كيسنجر، حينما أكد "أن فيروس كورونا سيسرع من تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق"، وهو ربما كان يقصد تراجع موقع الولايات المتحدة الاميركية كقوة عالمية اولى وتقدم الصين لاحتلال موقع الريادة العالمية.
فضلًا عن ذلك، هناك من يعتقد أن تداعيات كورونا دحضت وفندت العديد من النظريات التي بشر بها الغرب الليبرالي، وفي مقدمته الولايات المتحدة، ومن بينها العولمة، لا سيما ببعدها الاقتصادي، فهذا كيشور محبوباني عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية الذي شغل لبعض الوقت منصب وزير خارجية سنغافورة، يقول "ان الفيروس سيسرع عملية الانتقال من العولمة التي تركز على الولايات المتحدة الاميركية إلى تلك التي تتمحور حول الصين".
وهناك من يرى أن هذه الأزمة ستقوم بتعديل هيكل القوى العالمية بطرق لا يمكن تخيلها، وهناك من يرى أن المنتصرين في أزمة كورونا هم من سيكتبون التاريخ، في اشارة الى الصين، وانه من المرجح أن تساهم باستمرار تدهور العلاقات الصينية - الأميركية وإضعاف التكامل الأوروبي.
ولا شك أن هذه ملامح أولية، وما زالت تفاعلات تداعيات وآثار كورونا في بداياتها، وقد يكون العالم بحاجة الى وقت طويل حتى تتبلور وتكتمل صورته الجديدة، وتتضح معادلاته وتوازناته المحكومة بحقائق ومعطيات مختلفة عن تلك التي حكمت العالم وتحكمت به على مدى بضعة عقود من الزمن.