(حكمت البخاتي\صحيفة الصباح العراقية)
لم تخل كتب المؤرخين بعامة ومذكرات الرحالة بخاصة من الحديث عن جائحات الأوبئة والتذكير بمأساتها وقد ظهر في سياق الكتابة عنها أدب خاص بها عرف في الثقافة الاسلامية بـاسم " كتب الطواعين " وقد أحصاها بعض الباحثين فوصلت الى سبعين كتاباً وهي تعكس حجم الاهتمام الأدبي – الثقافي بهذه الجائحات وحجم المعاناة القديمة منها .
واستمرت ظاهرة أدب الجائحات الى هذا العصر فقد ظهرت العديد من الكتب والبحوث الحديثة في جائحات الأوبئة ، وهي تعكس محورية ومركزية هذه الظاهرة الصحية كظاهرة ملازمة في التاريخ البشري ، ويحدثنا الاستاذ أحمد العدوي في كتابه " الطاعون في العصر الأموي " عن تفشي هذا الوباء وانتشاره كل أربع سنين ونصف في العصر الأموي وبطبيعة الحال كان يشكل امتداداً لتفشيه وانتشاره في العالم المجاور ، بينما يحدثنا الاستاذ بلقاسم الطبابي في كتابه " الموت في مصر والشام " عن تفشيه وانتشاره في شمال افريقيا في عصر المماليك في كل عشر أو خمس عشرة سنة، ويستنتج عنه تفشيه في كل العالم الوسيط ، وهناك حديث مؤثر في المقدمة للعلامة ابن خلدون عن جائحة الطاعون في القرن الثامن الهجري
ويبدو أن جائحات الأوبئة حالة تكاد ان تكون طبيعية وملازمة في التاريخ البشري فلم يخل تاريخ البشر من جائحات الأوبئة في كل فصوله من القديم الى الوسيط وصولا الى الحديث، فقد كان تفشي الأوبئة واجتياحها العالم يحدث في كل قرن وبمعدل من أربع الى سبع جائحات في القرن الواحد وهو معدل قابل للزيادة والنقصان وفق مصادرنا التاريخية .
وقد استمرت هذه الجائحات في انتشارها الوبائي والمهدد للحياة البشرية حتى النصف الأول من القرن العشرين ، الا أننا نشهد تراجعا ملحوظا لتفشيها وانتشارها في النصف الثاني من القرن العشرين ولكن لا يعني هذا خلو العالم الحديث من الأوبئة الفتاكة والمدمرة للحياة بل على العكس ظهرت أمراض أخطر وأشد فتكا من الجائحات القديمة والمعهودة لكن تكامل النظام الصحي العالمي وتطوره حد من انتشارها وتمكن من تطويقها في مناطق اصابتها وانتشارها المبكر فقد تأسست خلال هذه الفترة وكالات الصحة العامة ومنها منظمةالصحة العالمية ومراكز مكافحة الامراض، لا سيما المعدية وبذلك تمكنت البشرية في أهم تجربة تعبر عن اتحاد وتضامن المجتمع البشري من صد موجات خطيرة من الامراض المعدية والسارية ومنها مرض نقص المناعة " الايدز " الذي انتشر في سبعينيات القرن العشرين وبلغ عدد الوفيات بسببه 32 مليون شخص مع آثاره النفسية والاجتماعية الخطيرة ، وكذلك استطاعت تجربة العمل البشري المتحد والمتضامن صد عدد من الامراض الفتاكة التي تشترك باسم ومعضلة " الانفلونزا " ، ومع بداية الربع الاول من القرن الحادي والعشرين عاودت الأوبئة ظهورها وانتشارها من جديد لكنها لم تتحول الى جائحات عالمية بفضل الجهد البشري المتحد في مواجهتها وكان أخطرها فيروس سارس الذي تفشى في الصين، لكن الجائحة الأخيرة فيروس كورونا الذي بدا العالم فيه ضعيفا ومترددا في المواجهة لأنه لم يعد عالما متحدا أو منظما لحالة من الاتحاد ضد هذا الوباء الأخطر في العالم الحديث ، وقد نتج هذا الارتباك العام عن سياسات عدد من الدول الكبرى وبعضها دول متحالفة لكنها قدمت أولوياتها ومصالحها أولا على مستوى العالم ثم المفاجأة في التفشي السريع لهذا الوباء الذي أصاب العالم بالذهول، اضافة الى غياب التنسيق المسبق بين الدول، لا سيما الكبرى بازاء المواجهة مع هذه الحالات والاحداث الكونية التي بدت البشرية غافلة عنها ونتج عنها هذا التغافل أو لعله التعتيم المقصود عن أسباب هذا الوباء.