النهار العربي
لم يمرّ فيروس كورونا على العمّال الأجانب في لبنان مرور الكرام. الجائحة بدت كابوساً وسط ظروف معيشيّة واقتصاديّة صعبة، عانى منها البلد ولا يزال، فدفعوا ثمناً معتبراً نتيجة إهمال الجهات المعنيّة، أو عدم اكتراثها لوضعهم الصحيّ، تحت شعار "الأفضلية لابن البلد" أو الإهمال العشوائي. فـ60 في المئة فقط من العمّال الأجانب المسجّلين رسمياً لدى الحكومة تلقّوا الجرعة الأولى من #اللقاح، والفئات التي تلقّت جرعتها الحامية لم تُقدِم على أخذ الجرعات الأخرى، مع العلم أنّ هذه اللقاحات معظمها مقدّمة من منظّمات وجهات خارجيّة، لكنّ نحو 40 في المئة منها فُقد و"تبخّر" في ظروف غامضة، وفق حديث مصدر مسؤول في إدارة ملف أزمة كورونا لـ"النهار".
"الأفضلية مش إلك"... غياب الدولة يُعرّض حياة #العمال الأجانب للخطر!
عند بداية انتشار الوباء التاجيّ، لم نكن كمجتمع إنساني جاهزين للتكيّف معه، فكنا نهرب من بعضنا، وبعضنا ينهار مع ارتفاع عدّاد الإصابات اليومي، ومعه الوفيات الناجمة عن مضاعفات كورونا. وكان العمّال الأجانب، الذين يُشاركوننا المساحات في هذا الوطن، متروكين لأقدارهم، ولا يعوّلون إلا على جهودهم الشخصية وبعض المبادرات الجمعيّة البسيطة لمواجهة الجائحة الجارفة.
في خطوة لاستجلاء حقيقة الوضع على جبهة التلقيح، تواصلنا مع "الصحة" التي من المفترض أن تكون الجهة المؤهلة لمعالجة الأمر وتقديم الوقائع للإعلام والرأي العام، إلّا أننا لم نتمكن من الحصول عن أجوبة حول واقع اللقاحات التي تلقاها العمال الأجانب، مع العلم أنّنا تواصلنا لأكثر من مرة مع المسؤولة الإعلامية في الوزارة. ترقبنا من الجهة المسؤولة المعنية أجوبة علمية، أيّ موثقة بالأرقام، وهذا النوع من المتابعات من الطبيعي أن يُدوّن ويُحفظ في ملف خاص ليكون جاهزاً للتقديم للرأي العام في حال وقوع أيّ التباس من باب رفع المسؤولية وتبيان الحقيقة، ولكن يبدو أن الإجابة مغايرة لواقع الحال الذي يفرض نفسه اليوم وهنا الكارثة. وقد لا يبدّد هذا الاستنتاج سوى تقديم المعطيات العلمية المطلوبة.
ومع تعذّر الحصول على الأجوبة من #وزارة الصحة، حاولنا التواصل مع الجهات البديلة مثل المنظّمات الحقوقيّة التي تُعني بحقوق العمال الأجانب في لبنان، كـ"اليونيسيف" و"منظمة الصحّة العالمية" حتّى، وكلّها أكّدت أن الجواب ليس عندها بل لدى الوزارة المعنيّة بهذا الملف، والتي لم "تُعِره أيّ اهتمام، بالرغم من مراسلتنا إياها لمرات عدّة، والطلب منها التشدّد في رقابة تلقّي هؤلاء العمّال لقاحاتهم، خصوصاً المنخرطين بشكل يومي مع باقي أفراد وشرائح المجتمع، ممّا يعرّضهم ويعرّضنا لخطر الإصابة الفيروس التي لا تعرف كيف يُمكن أن يتفاعل جهازنا المناعيّ معه"، وفق مصادر من هذه الجهات.
في سياق متّصل، أفادت مصادر وزارية "النهار" بأنّ "عملية تلقيح العاملين الأجانب في لبنان بدأت فعليّاً في صيف 2020، أيّ بعد مرور أشهر من الحجر الصحيّ وانتشار الوباء؛ وهنا لا بدّ من التشديد على أن بعض الفئات مثل السوريين، الذين تولّت الجهات المانحة والمنظمات الإنسانية وأخرى طبيّة توفير كميات كافية من اللقاح لهم، أسوة بباقي اللبنانيين، نظراً لأوضاع البلد الصعبة في محاولة لتخفيف الأعباء عن كاهل الحكومة، تلقّوا الجرعة الأولى بإشراف المنظّمات المعنيّة، ممّا سرّع عمليّة التلقيح. ولكن هذه القاعدة لم تشمل الفئات الأخرى مثل العاملين الإثيوبيين، الصوماليين، السودانيين، المصريين... وغيرهم".
هذا، وتُشير مصادر مسؤولة في ادارة ملف كورونا إلى "إعطاء 60 في المئة فقط من اللقاحات المقدّمة إلى العمال الأجانب، واختفاء الـ40 في المئة الباقية أو بمعنى آخر تبخّرها"، مضيفةً أنّ "الأرقام المسجّلة وزارياً اليوم لا تعكس حقيقة الأمر، فنسبة تلقيح الأجانب خجولة جداً بعد مرور عامين من الجائحة، وممّا يُثير التعجّب هو عدم اتّخاذ أيّ خطوات في هذا الصدد".
وتلفت المصادر إلى أنّه في بداية كورونا، تدفّقت على السفارات طلبات العودة بالآلاف، وقد تمّ ترحيل مئات العاملين والعاملات الأجانب. وقتها، دعت جمعيات ومنظمات محلية ودولية إلى تنظيم ورش توعوية للفئة المتبقية ضدّ فيروس كورونا لحثّهم على التقيّد بالتعليمات الصحيّة، ثم تلقّي اللقاح للحصول على مناعة مجتمعية. ولكنّه وفقاً للأرقام المتوافرة، فإنّ قلّة من العمّال تلقّوا الجرعة الأولى من اللقاح، بينما نحو 70 في المئة منهم لم يأخذوا حتّى الساعة الجرعة الثانية، ممّا يعني أنّ مناعتهم تجاه الفيروس لا تزال ضعيفة ومهدّدة.
على أبواب الشتاء، تُحذّر المصادر أيضاً من خطر الاستهتار بهذا الموضوع أكثر، وتُشدّد على أن "اللقاح قد لا يكون إجباريّاً في لبنان، ولكن معظم الشركات في البلد وفي العالم فرضت سياسة التلقيح الإلزامي على عمّالها حفاظاً على سلامتهم وحسن سير العمل، وبالتالي هذه أوّل خطوة يُمكن اتخاذها من قبل الجهات الموظّفة مثل شركات التنظيف والبناء والمدارس و#المستشفيات والفنادق والمطاعم وغيرها، كتدبير احترازيّ في ظلّ غياب رقابة وزارة الصحّة، أقلّه كي لا تقع الكارثة مثل كلّ عام، ثمّ نبدأ بتقاذف المسؤوليّات التي لا تُقدّم أو تؤخّر بعدما تحلّ المصيبة، خصوصاً أن معظم الأدوية مفقودة من السوق اللبنانيّة، ناهيك عن ارتفاع تكلفة فحوصات الـpcr وتكلفة المستشفيات أيضاً، مّا يُعرّض حياة المئات إلى الخطر ما لم نتدارك الأمر مبكراً".
قبل سنة، وفي شهر شباط تحديداً، اجتمعت وزيرة العمل السابقة لميا يمّين مع فريقٍ من المنظمة الدولية للهجرة (IOM) برئاسة مدير المكتب في لبنان فوزي الزيود، وبحث الجانبان في مسألة تلقيح العمّال الأجانب في لبنان، في إطار العمل على تحقيق المناعة الوطنية بمواجهة فيروس كورونا.
شدّدت يمّين وقتها على أهميّة استكمال العودة الطوعيّة للعمال المهاجرين في ظلّ الأزمة الاقتصادية والصحيّة في لبنان، فيما قال الزيود إن "البحث خصّص لدراسة آلية مساهمات المنظّمة في دعم جهود حملة التلقيح، ضد كورونا، للعمال الأجانب الموجودين في لبنان".
اجتماعات وقرارات فضفاضة لم تُبصر النور، فما رأي العمّال بذلك؟
"كانوا العالم يخافوا منّي"... ذلّ ومعاناة!
يتعامل عدد من اللبنانيين مع العمّال الأجانب بطريقة تفتقر إلى الإيجابيّة والتقدير لما يقوم به العامل من خدمة مجتمعيّة. علما أن عدداً لا يستهان به من اللبنانيين لم يُمانع بكسر قواعد السّلامة العامة والتجوال والسّهر خلال فترة الحجر، بل سافر وقام بزيارات عائليّة تحملنا جميعاً عقابها.
عبدلله (24 عاماً)، سوداني مقيم في لبنان منذ سنوات عدّة، وهو يعمل لصالح شركة تنظيفات كبيرة في بيروت. يُخبرنا "العامل الضحوك" كما يُطلق عليه أصدقاؤه، عن معاناته مع بداية انتشار الجائحة والصّعوبات التي واجهها.
"كنت دايماً إلبس كمامة، وضلّ بعيد عن الناس، لأن كانوا يخافوا منّي وما بدّي إخسر شغلي"، يقول عبدلله. بهذه الكلمات وصف الشاب السوداني الهارب من الحرب في بلده معاناته مع الفيروس التاجيّ، أو بالمعنى الأصحّ مع الواقع الصحيّ في لبنان. "منصّة التسجيل لأخذ اللقاح لم تكن تعمل طوال الوقت، لذا لم أستطع التسجيل عليها، فقرّرت الحضور شخصيّاً إلى أحد المستشفيات لتلقّي الجرعة الأولى، لأنني خفت من أن أُصاب وأُفصل من العمل، فتوجّهت إلى مستشفى الحريري، وانتظرت أكثر من 4 ساعات تحت الشمس لأحصل على الجرعة الأولى، وحتّى السّاعة لم يتّصلوا بي لأخذ الجرعة الثانية، وأنا لا أخطّط لذلك أساساً، لأنّ ساعات عملي طويلة، ولا يوجد يوم عطلة لي"، يروي عبدلله لـ"النهار".
إهمال حكومي ووزاريّ ومؤسّساتي؟
يشرح العامل السودانيّ في سياق كلامه بأن "شركة التنظيف التي يعمل لصالحها لم تطلب إليه تلقّي اللقاح أو تُساعده على ذلك، فهو بادر إلى هذه الخطوة من تلقاء نفسه بعدما سئم نظرات الموظّفين له، وخوفهم المستمرّ من الاقتراب منه".
وعلى صعيد مماثل، تُخبرنا ليتي (37 عاماً)، وهي عاملة منزليّة لدى إحدى العائلات المعروفة في كسروان، بأن "أصحاب العمل لم يطلبوا منها تلقّي اللقاح، حتّى أنّ زوجة الرجل منعتها من ذلك لأن اللقاح يتسبّب بأعراض جانبيّة مثل وجع الرأس والخمول والإسهال، ممّا قد يحول بينها وبين القيام بأعمالها المنزليّة اليومية، وقالت لها: "لا بأس، فأنت لا تخرجين أساساً من المنزل، ولكن على صحة السلامة لا تقتربي من الأولاد".
"شعرت بالإهانة في البداية، فأنا أحبّ الأطفال، وتعلّقت بالصبي الصغير، فهو يُذكّرني بطفلي في إثيوبيا، الذي لم أرَه منذ ٧ سنوات، ولكن ماذا عساني أفعل؟ فأنا أنفّذ أوامر المدام فقط"، تقول ليتي.
إلا أن رواية ليتي لا تنفي واقع قيام العديد من الأسر اللبنانية بالاهتمام المنظم بصحة العامل الأجنبي معها في المنزل أو العامل في مؤسساتها وأشغالها، وتأمين اللقاحات له.
أمّا كريم، الشاب الصبور والمساعد للجميع، كما يصفه العاملون معه، وهو موظف في مجال التنظيف في مدرسة شهيرة في بيروت، وفي شركة كبيرة أيضاً تضمّ أكثر من مئة موظّف، فله قصّة أخرى تُبشّر خيراً وسط كمّ كبير من الانطباعات السلبيّة.
على عكس الشركات الأخرى، قامت الشركة التي يعمل فيها كريم بتنظيم جلسات حواريّة وتوعية للعاملين الأجانب حول وباء كورونا، حتّى أنّها استعانت بطبيب مختصّ ليشرح لهم مخاطر الفيروس التاجيّ، وليُجري لهم الفحوص اللازمة قبل أخذ اللقاح حفاظاً على سلامتهم، في خطوة تتماشى مع التزام الشركة بتطبيق القواعد الصحية العالمية بالدرجة الأولى، والقيم الإنسانيّة ثانياً.
"لم أواجه أيّ مشكلة لجهة تلقّي اللقاح، فنَعم سفارتي لم تتّصل بي، ولكن شركتي المشغّلة قامت بالواجب، ووفّرت لي ولكلّ زملائي من دون استثناء فرصة أخذ الجرعتين من اللقاح، وإجراء الفحوص اللازمة أيضاً، ولا نزال حتّى الآن نتواصل مع الطبيب المختصّ. وأنا على استعداد لتلقّي الجرعة الثالثة والعاشرة حتّى من اللقاح، لأن صحة الفرد ومن حوله مسؤوليّة شخصيّة، علينا تحمّلها بحكمة ووعي ريثما تمرّ هذه المرحلة بأقلّ أضرار ممكنة".
اليوم، يوجد أكثر من 250 ألف عامل مهاجر مسجّل في لبنان، يعملون في مجال خدمة البيوت والنظافة والفلاحة والبناء، هذا إن لم نذكر اللاجئين السوريين والفلسطينيين الذين لا يصحّ شملهم مع باقي الفئات، لأنهم يخضعون لإشراف جهات حقوقية ومنظّمات معروفة نسبة لأوضاع بلادهم وحالتهم الاجتماعيّة. أمّا الفئات الأخرى فعلياً، فمعظمهما "لا ظهر لها"، وسفاراتها لا تتواصل معها أو تُنظم دورات وورشاً توعوية حول مخاطر #كوفيد وسُبل الوقاية منه، علماً بأن معظم تلك البلدان عانت لسنوات، ولا تزال، من انتشار أوبئة غير معروفة وخطيرة تسبّبت بمقتل عدد كبير من مواطنيها، إمّا بسبب الإهمال أو الجهل. والسؤال الأساسي اليوم، مَن يتحمّل مسؤوليّة التلاعب بصحّة العمّال الأجانب المقيمين على الأراضي اللبنانية؟ وماذا عن الأرقام الحقيقيّة لأعداد إصاباتهم والوفيات؟ وما الهدف من التعتيم الإعلامي على سجلات التلقيح الخاصة بهم.
تمّ إنتاج هذا التقرير بالتعاون مع مؤسّسة "مهارات" و"منظمة إنترنيوز"، ضمن مشروع RIT.