سيجد من يتأمل في المشهد الصباحي لمدينة نيويورك الأميركية أنّ الشوارع ومحطّات الميترو والباصات تكتظ بالعمال والموظفين في المجالات المختلفة وطلاب المدارس والجامعات. ويبدو للوهلة الأولى أنّ الولايات المتحدة تعافت، وعادت الأمور إلى طبيعتها بالكامل في ولاياتها، بخاصة بعد عودة المدارس والجامعات إلى حصص التعليم الحضوري.
ورغم أن وسائل الإعلام والإدارات والدراسات تناولت بإسهاب تبعات جائحة كورونا على الأوضاع الاقتصادية والصحية والنفسية، إلا أن تبعاتها على طلاب المدارس في الولايات المتحدة والتعليم عموماً بدأت تتوضح أخيراً بشكل أعمق وأكثر تفصيلاً،
تعلّق مونيكا ديليون المعلمة في إحدى مدارس نيويورك العامة بمنطقة بروكلين، لـ"العربي الجديد"، على تجربتها خلال بداية انتشار جائحة كورنا مطلع عام 2020، وتقول: "واجهنا تحديات كبيرة في الانتقال إلى التعليم عن بعد، ليس فقط على مستوى عدم جهوزيتنا لهذا الانتقال شبه المفاجئ، خاصة في المدارس العامة، وكانت بعضها لوجستية وحتى اقتصادية، خاصة بالنسبة إلى الطلاب المتحدرين من عائلات فقيرة، والذين لم يملك بعضهم أجهزة كمبيوتر في البيت. وحتى أولئك الذين لديهم أجهزة كومبيوتر، احتاج إخوتهم الآخرين إلى استخدامها للدراسة في الأوقات نفسها. وحاولت سلطات المدينة والمدارس التعويض بتوزيع كمبيوترات محمولة أو أجهزة الكترونية أخرى، لكن هذا الأمر لم يحصل دائماً، ولم يكن التعامل مع هذه الاحتياجات سهلاً عموماً".
تحديات
وتشدد على تخطي هذه المرحلة رغم التحديات الكبيرة التي تعلّق بعضها أيضاً بأساسيات مثل وجبات الطعام. وتشرح أن "الوجبة الصحية الأساسية اليومية لكثير من الطلاب المتحدرين من عائلات فقيرة هي تلك التي يحصلون عليها في المدرسة، ما أضاف إلى التحديات الكثيرة والثقيلة التي واجهوها".
وفيما تضم مدينة نيويورك، الأكبر في الولايات المتحدة بعدد سكان يناهز 8.5 ملايين، أكبر عدد طلاب مدارس، بينهم أكثر من مليون طالب في المدارس العامة، يحتاج أكثر من نصف المدارس العامة إلى مساعدات، مثل الوجبات الغذائية المجانية وغيرها.
وحاولت بلدية نيويورك العمل لتعويض فقدان هذه الوجبات عن طريق مراكز توزيع الغذاء في أحياء مختلفة قريبة من تلك المدارس، أو باستخدام أساليب أخرى، في وقت يعيش 14 في المائة من سكان الولاية في فقر بحسب إحصاءات رسمية اصدرتها سلطاتها، أي حوالي 2.7 مليون.
بعض الإيجابيات
وفي مقابل هذه التحديات التي تطلب تخطيها بذل جهود كبيرة، لاحظ معلمون أن أموراً إيجابية حصلت بعد العودة إلى التدريس. وتؤكد ديليون أن إعطاء دروس عن بعد ساعدها في الانتباه أكثر إلى أهمية تحسين توظيف التكنولوجيا وبرامج التعليم التفاعلية في الصفوف الدراسية، لكنها تشير إلى أنها لاحظت أن مستوى الطلاب كان أضعف مقارنة بسنوات سابقة، وأنّ نسبة كبيرة منهم تعاني من مشاكل في التركيز مقارنة بالسنوات السابقة في ما يخص مثلاً قراءة النصوص الطويلة، وفهم القراءات.
العواقب طويلة الأمد
وتدعم هذه الملاحظات الميدانية للمعلمة ديليون دراسات أصدرتها مؤسسات أميركية حكومية أو مستقلة، ما يعني أنّ هذه الملاحظات ليست حالة خاصة بنيويورك ومدارسها.
وتورد دراسة بعنوان "الوضع المقلق لحالة الطلاب الأميركيين عام 2022"، أعدها معهد "بروكينغز" للأبحاث ومقره واشنطن، أنّ "وضع التعليم وتأثير الجائحة وتبعاتها تسببا في تراجع ملحوظ في قدرات الطلاب على التحصيل العلمي بشكل لم تشهده الولايات المتحدة منذ عقدين".
أيضاً تظهر نتائج أصدرتها مؤسسة التقييم الوطني للتقدم التعليمي الفيدرالية انخفاضاً تاريخياً في معرفة ومهارات الطلاب الأميركيين في مواد الرياضيات وفهم القراءات، واتساع فجوات التحصيل المدرسي بين الدرجتين العالية والمنخفضة.
وتؤكد المؤسسة "وجود مزيد من الدراسات لفهم الوضع بشكل أفضل، لكن تلك المتوفرة تظهر فقدان طلاب المدارس خلال جائحة كورونا وتبعاتها فرصاً مهمة للازدهار في مجالي اللغة والرياضيات، وتزايد حالات القلق والاكتئاب لديهم، علماً أنّ طفلاً من كلّ 360 فقد أحد المقربين، أي أحد الوالدين أو المعيلين له خلال الجائحة".
وترصد المؤسسة حقيقة أنّ الطلاب الذين لم يحصلوا قبل الجائحة على العناية والموارد اللازمة، خاصة ذوي الاحتياجات الخاصة، عانوا الأمرّين خلال الجائحة وبعدها، ولم يحصلوا على خدمات دعم كافية، ما يعني أنّ درجات تخلفهم أكبر.
وتشدد على أن "الفترة الحالية حساسة ومهمة، والتحديات حقيقية وملموسة، لذا يجب اتخاذ خطوات لعلاجها بسرعة لتجنب تهديدات محتملة في المجالات التعليمية والاجتماعية والنفسية، والتي من الضروري معالجتها أيضاً لتجنب عواقب طويلة الأمد يمكن أن تنعكس سلبا على مستقبل الولايات المتحدة ومستقبل طلابها والقوى العاملة فيها والمجتمع عموماً".
اختلاف في التعافي
ويلفت التقرير إلى أن "تعافي الطلاب من تبعات الجائحة وتأثيرها عليهم يختلف بحسب خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية، فالأقليات، مثل السود واللاتينيين، أو العائلات ذات المداخيل المحدودة والفقيرة عموماَ، تعاني بشكل أكبر من التبعات السلبية للجائحة. ويلاحظ التقرير أنّ "طلاب المدارس التي أغلقت أبوابها مدة أطول واستعانت بالتعليم عن بعد يعانون بدرجات أكبر، وأن الفوارق بين الطلاب ذوي التحصيل العالي والمنخفض زادت بعد الجائحة، وهو ما كان بدأ يحدث قبل انتشار الجائحة. أما وتيرة التعافي فليست بالمستوى المطلوب، ما يعني أنّ الضرر سيلحق بالطلاب باختلاف خلفياتهم الاجتماعية والمادية، وليس فقط الأقليات أو أبناء العائلات ذات المداخيل المحدودة. وسيعني ذلك أنّ أجيالاً من طلاب المدارس الأميركيين سيتخرجون في السنوات القادمة من دون امتلاك المهارات اللازمة للكليات أو لسوق العمل".
معلومات غير مكتملة
ويشدد التقرير على "عدم توفر المعلومات الشاملة لاستخلاص العبر ورسم صورة كاملة عن الوضع التعليمي الحالي، وأن هناك حاجة لمزيد من الإحصاءات والدراسات، علماً أن الواقع قد يكون أسوأ مما تشير إليه الدراسات الحالية، خصوصاً بالنسبة إلى المجموعات المختلفة التي عانت سابقاً من تهميش". كما يلفت إلى أن الدراسات لم تَقِس مستوى الطلاب في مجالات حيوية عدة، بينها اللغات الأجنبية والعلوم والتربية المدنية.
وتذكر أنه "حتى في الحالات التي يكون ما يمكن القيام به واضحاً، مثلاً على صعيد التدابير الاجتماعية أو المنهجيات المطلوبة، يختلف التمويل والدعم المتوفر بين ولاية وأخرى أو مدينة وأخرى، ما يعني أن مستويات التعافي للشرائح الاجتماعية نفسها تختلف أيضاً بين هذه الولايات والمناطق بحسب السياسات المطبقة".
ويلاحظ التقرير أن "التقدم يحدث غالباً في مدارس شهدت تعاوناً بين أولياء الأمور والإدارات، ويستند إلى البرامج والسياسات المختلفة المطبقة". ويقدم اقتراحات إضافية، بينها إجراء مزيد من البحوث والدراسات بشكل دوري على مستوي فيدرالي ومحلي، واستخدام الولايات للمعونات المادية الفيدرالية بسبب الجائحة التي حصلت عليها، وتخصيص نسبة لا بأس بها للتعليم، ومعالجة التحديات من أجل التعافي من الجائحة وتبعاتها على قطاع التعليم والصحة النفسية والاجتماعية للطلاب، وأيضاً تكثيف البرامج والدروس الخصوصية والدورات، وتقديم الدعم للعائلات بطرق مختلفة بحسب احتياجاتها، بينها الدعم المادي والتمويل".
ويشدد على ضرورة القيام بدراسات صادقة وتنفيذ رصد دقيق للواقع القائم على مستوى الولايات في نهاية العام الحالي، ووضع خطط لفترات تتراوح بين 5 و10 سنوات من أجل التعامل مع الثغرات والاحتياجات. كما يؤكد التقرير أن "اختلاف الاحتياجات وتنوعها يعني أيضاً أن الحلول والخطط المقترحة يجب أن تكون متنوعة"، محذراً من "حلول على مقاس واحد تطبق أو يجرى فرضها على الجميع، بدلاً من رصد الاحتياجات المختلفة ووضع خطط لها".