«اختار» القَدَر قضاء بازارجيك، التابع لمحافظة قهرمان ماراش، ليكون مركز الزلزال المدمِّر الذي ضرب مساحة واسعة من المدن التركية، وصولاً إلى ديار بكر شرقاً. لكن مركز الزلزال القريب من الحدود السوريّة، «وحّد» مصاب المناطق، سواءً تلك الخاضعة لسيطرة الحكومة، أو مناطق المعارضة في شمال غربيّ البلاد، والتي تعرّضت، بدورها، لخسائر كبيرة جداً في الأرواح والممتلكات، فضلاً عن شمول الزلزال كلّاً من لبنان ومصر، من دون خسائر مهمّة. أمّا قوّة الزلزال التي بلغت 7.7 درجات على مقياس ريختر، وبعمق سبعة كيلومترات، فجعلتْه يشمل بتداعياته مساحة جغرافية واسعة بلغت 10 محافظات وعدّة مدن كبرى دفعة واحدة، من قهرمان ماراش، وشانلي أورفة، وغازي عينتاب، إلى الإسكندرون، وملاطية، وأضنة، وآدي يمان، وعثمانية، وصولاً إلى ديار بكر، وهو ما حدا بالخبراء إلى القول إن الزلزال الذي وقع هو الأشدّ منذ عقود طويلة. ولم يقتصر الأمر على الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في الساعة الثالثة و17 دقيقة تقريباً بتوقيت بيروت من فجر الإثنين، بل إن آخر جديداً (ليس هزّة ارتداديّة) قوّته 7.6 درجات، ضرب في منطقة البستان التابعة أيضاً لمحافظة قهرمان ماراش، عند الساعة الثانية عشرة و25 دقيقة من ظهر أمس.
على أن حجم الخسائر الحقيقية لن يَظهر قبل مرور عدّة أيّام وربّما أسابيع، فيما كانت التقديرات حتى عصر أمس تشير إلى سقوط حوالى ألفي قتيل وآلاف الجرحى، وتلك أرقام ظلّت أوّلية بفعل وجود جثث كثيرة تحت أنقاض آلاف المباني المدمّرة، ولا سيما المرتفعة منها داخل المدن. وقد تضرّر أيضاً مطار هاتاي في لواء الإسكندرون، وتشقّقت مدرجاته، وأُغلق أمام رحلات الطيران، كما تشقّق عدد كبير من الطرق التي تصل بين مدن الإسكندرون، فيما أَغلقت مطارات أخرى، من مثل قهرمان ماراش، وغازي عينتاب، وملاطية، أمام رحلات الطيران المدني، وتمّ تفريغها لرحلات الإنقاذ، وعلّقت المدارس فصولها الدراسية في المناطق المذكورة لمدّة أسبوع. ومن بين الآثار المتضرّرة، قلعة غازي عينتاب التاريخية التي انهارت أجزاء من بعض أسوارها. وفي الموازاة، ثمّة من أنذر من حدوث تسونامي في المناطق الشرقيّة للبحر المتوسط. وبالنسبة إلى الخسائر في الأرواح، فلم يُعرَف بعد مصير النائب عن «حزب العدالة والتنمية»، يعقوب طاش، وعائلته في مدينة آدي يمان. ومن بين الذين لا يزالون تحت الأنقاض، ولم يُعرف مصيرهم إلى الآن، عدد كبير من الرياضيين من مختلف الألعاب، منهم 40 مصارعاً في قهرمان ماراش، وأحمد أيوب تورك أصلان حارس مرمى نادي «ملاطية سبور الجديد»، والعديد من لاعبي كرة الطائرة التابعين لفريق بلدية ملاطية، و14 لاعبة في فريق هاتاي للسيدات في كرة الطائرة.
في هذا الوقت، حذّر خبراء الزلازل، مثل ناجي غورير، من أن الهزّات الارتدادية قد تكون قويّة، وقد تؤدّي إلى تَهدُّم المنازل التي تصدّعت، داعياً سكّانها إلى عدم العودة إليها. وكان غورير نفسه أطلق، قبل يومين من حدوث الزلزال، تحذيرات من حدوثه، وأبدى قلقه إزاء ذلك. من جهته، أفاد خبير الزلازل، حسن سوزبيلير، بأن الزلزال كان الثاني الأكبر في تركيا خلال مئة عام، بعد الأوّل الذي حدث في أرزنجان، في عام 1939. وبحسب هذا الخبير، فإن خطّ الصدع للزلزال الجديد أسفر عن تكسير طبقة كانت تتشكّل بعد آخر زلزال حصل عام 1504، مضيفاً أنه «علميّاً، كان مثل هذا الزلزال متوقّعاً». أمّا الباحث في الزلازل، ضياء الدين تشاكر، فقال إن الهزّات الارتداديّة التي شهدتها قهرمان ماراش كثيرة، بحيث لم يُعرَف مثلها بعد الزلزال الكبير الذي وقع في إسطنبول، عام 1999. إلّا أن التغريدة الأكثر تداولاً، جاءت على لسان خبير الزلازل الهولندي، فرانك هوغيربيتس، المشهور بتكهّناته، والذي كتب، الجمعة الماضي في الـ3 من شباط، متوقّعاً زلزال أمس الإثنين. وجاء في تغريدته: «عاجلاً أم آجلاً سيحدث زلزال بقوّة 7.5 في منطقة جنوب وسط تركيا والأردن وسوريا ولبنان»، مرفقاً تغريدته هذه بخريطة مفصّلة تُطابق خريطة الزلزال الذي حدث!
حذّر خبراء الزلازل من أن الهزّات الارتدادية قد تكون قويّة، وقد تؤدّي إلى تَهدُّم المنازل التي تصدّعت
ودفعت الخسائر الكبيرة الناتجة من الزلزال، الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى الذهاب إلى مقرّ عمليات الإغاثة في أنقرة للإشراف على عمليات الإنقاذ التي تتمّ وسط ظروف مناخية صعبة من الرياح والمطر وتساقط الثلوج وتدنّي درجات الحرارة. وقال إردوغان إنه من غير الممكن معرفة العدد النهائي للضحايا، والذي يزداد بسرعة. من جهته، سارع وزير الداخلية، سليمان صويلو، إلى رفْع درجة الإنذار إلى الدرجة الرابعة، وهذا يعني مناشدة الدول الخارجية للمساعدة في عمليات الإنقاذ. وكان الرئيس الأميركي، جو بايدن، في مقدمة مَن أبدى استعداد بلاده لمساعدة تركيا جنباً إلى جنب الدول «الحليفة» مع شمول المساعدة، الشعب السوري، كما قال. كذلك، فعل معظم زعماء الدول الغربية، وحتى الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، أبدى استعداده للمساعدة. من جهته، سارع رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، إلى تعزية نظيره التركي، فيما أعلن وزير الخارجية، إيلي كوهين، أن إسرائيل تَعدّ برنامجاً للمساعدة، في تذكير بالمساعدات الكبيرة التي قدّمتها لتركيا بعد زلزال إزميت في عام 1999. كما أعربت اليونان، على لسان رئيس وزرائها كيرياكوس ميتسوتاكيس، عن التحضير لإرسال معونات مماثلة. أيضاً، أعرب عدد كبير من زعماء العالم عن التضامن مع تركيا وإرسال فرق إنقاذ؛ ومن بين المعزّين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي أرسل برقية تعزية إلى إردوغان، معلناً استعداد بلاده لتقديم كلّ مساعدة ممكنة.
فهل يكون زلزال بزارجيك وتوافد المساعدات الدولية للإنقاذ فرصة لتحسين العلاقات الأميركية والغربية مع تركيا، خصوصاً في ظلّ الحملة التي يقودها هؤلاء ضدّ إردوغان، وهل يستفيد هذا الأخير ممّا يجري في الطريق إلى السباق الرئاسي الذي لم يتبقّ عليه أكثر من مئة يوم؟ وهل يكون الزلزال أيضاً فرصة لتغيير السلوك الأميركي والغربي تجاه سوريا التي خُنقت بـ«قانون قيصر»، أم إن ذلك السلوك العدائي سيستمرّ على ما كان عليه؟