إلى الجنوب اللبناني، وصلت أصداء البكاء على ضحايا الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا. كثيرون من النازحين السوريين، الذين ألقى بهم زلزال الحرب السورية هنا وهناك، يتحدّرون من بلدات الشمال المنكوبة. ومن لم يمت تحت الأنقاض في مسقط رأسه، مات تحت أنقاض النزوح في الجانب التركي.
في إحدى الشقق في البيسارية (قضاء صيدا)، افتتح مجلس تقبّل العزاء بعائلة عبد العزيز حمادي الذي نجا هو، لكنه فقد زوجته وجميع أولاده. كما شمل العزاء عبد الحكيم العنيزان وعائلته. أفراد العائلتين سقطوا ضحية الزلزال الذي ضرب مدينة إدلب. لكنهم ليسوا منها. اضطروا عام 2011، مع بداية الحرب، إلى النزوح من مدينتهم حمص إلى حماة قبل أن ينتهي بهم مطاف الشتات في إدلب. فيما حط المطاف بأقرباء لهم في تركيا ولبنان. يظنّ قريبهم باسل بأنهم لو بقوا في حمص، لما قضوا في زلزال إدلب بعد 12 سنة. لكنه يستدرك سريعاً بأن منازلهم دُمّرت بالكامل بسبب القصف. طوال السنوات الماضية، اتخذوا من إدلب مكاناً أكثر أمناً. استقرّوا واشتروا منازل وأسّسوا مصادر رزق لهم. أفلتوا من أهوال الحرب، فجاءهم الزلزال.
إلى منزل أقرباء آل حمادي في البيسارية، تنادى أبناء حمص لتعزية بعضهم البعض. «لو جلتِ الآن على كلّ نازح سوري على حدة، ستجدينه غارقاً في كآبته. الزلزال توّج مآسي الحرب» يخلص باسل.
أمة عربية واحدة!
غطى الحنق وجوه المتحلقين حول الشيخ مصطفى وهو يلقي عظة الموت. دعا أبناء جلدته إلى التبرّع لأهلهم في سوريا ولو بثمن ربطة خبز. منهم من شكا ضيق حال النازحين المعوزين في الشتات، الذي يمنع من جمع التبرعات الكافية. ومنهم من تجنّب التبرع لأن «الدولة اللبنانية تضع علينا إشارة حمراء لو أرسلنا مالاً أو مساعدات عينية. يظنون بأننا نرسلها إلى الإرهابيين» يقول باسل. «ما إلنا غير رحمة الله» يجمع أهل العزاء.
يستعيد باسل بسخرية وقهر، الشعار المقدس الذي أجبر على حفظه في المدرسة: «أمة عربية واحدة». يسأل عن العرب ماذا يفعلون للسوريين المنكوبين بالمقارنة مع ما يفعلونه للأتراك؟. يشيد بحملة التضامن اللبنانية من جمع تبرعات وإرسال متطوّعين، لكنه يخشى بأن «تكون محصورة بمناطق الموالاة. كل المنكوبين يبيتون تحت شجر الزيتون في العراء». ابن حمص الذي اختار لبنان قبلة نزوحه فور اندلاع الحرب، يقول إن «التحرّك اللبناني بديهي لأننا شعب واحد»، مستذكراً حملات التبرّع بالدم التي قادها مع شبان سوريين آخرين لإنقاذ ضحايا انفجار مرفأ بيروت عام 2020.
يستعيد باسل بسخرية الشعار الذي أجبر على حفظه: «أمة عربية واحدة»
تسقط الأخبار عن الأهل
أميرة فقدت خالتها وعائلتها تحت الركام في منطقة عفرين. قسمت العزاء بين منزل زوجها في الصرفند وبين منزل أهلها في أنصار. جارتها سهام فقدت أيضاً عدداً من أقرباء زوجها في بلدة جنديرس التابعة لعفرين في محافظة حلب. في مسقط رأسها صنارة، فقدت أيضاً أقرباء وجيران. في اليوم الثاني بعد الزلزال، عرفت مصير أهلها بعدما اشترى شقيقها شريحة هاتف تركي. نجا والدها ووالدته وعدد من أشقائها وأسرهم بعد دمار منازلهم. لكنهم يبيتون في البراري منذ فجر الإثنين. أقسى ما يؤلم سهام بأنها لا تتمكن من إغاثة أهلها. «أستيقظ في الليل. أنفض عني الحرام تضامناً مع أمي التي تلتحف بالسماء. عرضت عليهم بأن ينتقلوا إلى لبنان، لكنهم رفضوا لقلة الإمكانيات المادية وصعوبة اجتياز حماة وحمص وصولاً إلى لبنان». لم تشهد على الزلزال الأخير. لكنها عايشت زلازل سابقة قبل نزوحها. في نهاية السبعينيات، شهدت على زلزال دمر بلدتها والمحيط. «بسبب الفقر، كان الرجال يكسرون الحجارة من البراري ويشيدون المنازل بلا أساسات. فأصبحت فريسة سهلة للقذائف والهزات».
أم سليمان من بلدة الطبقة في محافظة الرقة. لحقت بأولادها إلى منطقة الزهراني بعد الحرب السورية. خلّفت وراءها أحد أبنائها في الرقة. نجا من موت الزلزال، لكن منزله تضرّر. «البيوت عندنا تعبانة من الكل. من القصف والزلزال ومن الفقر قبلهما». هو الفقر نفسه الذي لا يمكنها من إغاثة أهلها. تردّد مثلاً شعبياً: «لو كانت اليد تطال الظهر، لا نقصر».
الموت نازحين
يشير عدد من النازحين بأن ضحايا كثراً لم يسقطوا في أراضيهم، بل في أماكن نزوحهم. أبو مصطفى ينتمي إلى بلدة شيخ الحديد التي تقع على الحدود التركية. «أهل بلدتي يجهزون المقابر الجماعية لاستقبال جثامين أبناء البلدة الذين قضوا في الزلزال في الجانب التركي الذي كانوا قد نزحوا إليه بعد الحرب». من تحت ركام أنطاكية، يترقب فادي ابن مدينة حلب النازح إلى لبنان، معرفة مصير شقيقته وعائلتها المفقودين منذ وقوع الزلزال. وفي الإطار نفسه، يتحدث عبدالله عن 150 ضحية من بلدته حلفايا الواقعة في ريف حماة الشمالي سقطوا تحت الركام بين اللاذقية وحلب وإدلب وتركيا. «رغم أن حلفايا لم تتأثر بالزلزال الأخير، لكن أهلها تهجروا بسبب الحرب إلى أماكن ظنوها أكثر أمناً، فلحقهم الموت بشكل زلزال».