3 سنوات مرت على إعلان فيروس كورونا المستجد جائحة عالمية في مارس (آذار) 2020. ورغم نجاح العالم في امتصاص زلزال «كورونا»، ما أدى إلى تراجع المخاوف من الجائحة، والتخفيف وربما التخلي عن الإجراءات الاحترازية، فإن «كوفيد - 19» ترك بصماته على شتى مناحي الحياة، مخلفاً توابع وهزات ارتدادية ما زال العالم يعاني منها في قطاعات الصحة والتعليم، وسوق العمل.
الفيروس أصاب أكثر من 681 مليون إنسان وأمات نحو عشرهم، أي: 6.812.126، حسب أحدث الإحصاءات الرسمية المعلنة عالمياً.
شهور معدودة فصلت بين إعلان الجائحة، وتوفير أول لقاح للفيروس في ديسمبر (كانون الأول) 2020، الذي ساعد في إنقاذ ما يقدر بنحو 19.8 مليون شخص، خلال العام الأول من توفير اللقاح (من ديسمبر 2020 وحتى ديسمبر 2021)، وفق دراسة نشرت في يونيو (حزيران) من العام الماضي بدورية «ذا لانسيت إنفيكشين ديزيز».
وبينما انشغل العالم في إنتاج اللقاح، وإدارة الحملات الصحية لتطعيم الناس، وتوفير الرعاية الصحية للمصابين، تراجع الاهتمام بتوفير خدمات صحية أخرى، بينها رعاية مرضى الأمراض غير السارية، وتنفيذ حملات التطعيم للأطفال.
ويعزي كثير من الدراسات هذا التراجع الذي شهدته الخدمات الصحية الأخرى إلى «الإرهاق» الذي أصاب الأطقم الطبية خلال الجائحة، وهو ما تعبر عنه «دراسات حالة» لأكثر من دولة، كان آخرها دراسة نشرتها دورية «ساينتفيك ريبورتيز» في فبراير (شباط) الماضي، عن «الإرهاق» الذي أصاب الأطقم الطبية في كوريا الجنوبية.
ولا يرجع هذا «الإرهاق»، فقط، إلى الضغط الناتج عن زيادة أعداد المصابين بالفيروس، حيث تشير دراسات أخرى إلى أن «الجائحة خلقت فرصاً لهجرة بعض الأطباء، ما أدى إلى نقص في أعداد الأطقم الطبية ببعض الدول».
وهو ما لفتت إليه دراسة لباحثين من الكلية الملكية للأطباء بآيرلندا، نشرت بدورية «الموارد البشرية الصحية» في مارس (آذار) 2021، أي بعد عام من إعلان «كوفيد - 19» جائحة عالمية، استطلعت آراء 31 طبيباً آيرلندياً، وقسمتهم إلى مجموعتين: «عائدو كوفيد» و«المهاجرون المحتملون بسبب كوفيد».
والعائدون، بحسب الدراسة، هم أطباء عادوا إلى آيرلندا في مارس (آذار) 2020، استجابة لنداء التوظيف المتعلق بالوباء الصادر عن الحكومة الآيرلندية. أما المهاجرون المحتملون، فهم أطباء يفكرون في الهجرة، بسبب معاناتهم من اضطرابات مرتبطة بالوباء، إضافة إلى مشاكل أخرى في النظام الصحي الآيرلندي، بينها ظروف العمل «السيئة».
وتظهر هذه المشكلة بشكل أكبر في الدول متوسطة ومحدودة الدخل، وبينها مصر. حيث تقدر نقابة الأطباء المصرية، في إفادة رسمية صدرت في يناير (كانون الثاني) الماضي، أن «عام 2022 شهد أعلى معدل للاستقالات بين الأطباء إلى حد تم تقديره بنحو 4261 طبيباً، بمعدل يومي 12 طبيباً وطبيبة، وهذه الأرقام تعد الأعلى خلال السبع سنوات الأخيرة، بمعدل تضاعف 4 مرات».
الأمراض غير السارية
وعالمياً، أثر هذا النقص العددي في الطواقم الطبية على الخدمات الطبية المقدمة لعلاج الأمراض غير السارية. وإن كانت الخدمة شهدت تحسناً تدريجياً في عام 2023، لكنها لم تصل إلى مرحلة ما قبل الوباء، كما يقول ماثيو وودروف، مدرس علم المناعة البشرية بجامعة إيموري الأميركية.
ويضيف وودروف في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أنه «من البديهي مع توجيه طاقة أغلب الأطقم الطبية للتعامل مع فيروس (كورونا)، أن يحدث تعطل للخدمات الصحية جزئياً، أو كلياً في كثير من البلدان، وهو ما أكدته إحصائيات المراكز الصحية المحلية والدولية».
وكشف تقرير لمنظمة الصحة العالمية في يونيو (حزيران) 2020، عن تعطل كلي أو جزئي في الخدمات الخاصة بعلاج فرط ضغط الدم في أكثر من نصف البلدان (53 في المائة)، والخدمات الخاصة بعلاج داء السكري ومضاعفاته (49 في المائة)، وخدمات علاج السرطان (42 في المائة)، والخدمات الخاصة بطوارئ أمراض القلب والأوعية الدموية (31 في المائة).
ويوضح وودروف أن «هذا الوضع استمر حتى نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، وبدأ يتحسن تدريجياً، لكنه لا يزال يمثل تحدياً كبيراً».
الوباء الثلاثي
وأحد أسباب استمرار هذا الوضع، ليس فقط نقص الطواقم الطبية، ولكن ما بات يعرف بـ«الوباء الثلاثي»، كما يؤكد أحمد سالمان، مدرس علم المناعة وتطوير اللقاحات بمعهد إدوارد جينر بجامعة أكسفورد الأميركية.
والوباء الثلاثي هو اجتماع فيروسات «كوفيد - 19» و«الإنفلونزا» و«المخلوي التنفسي». ففي الوقت الذي بدأ فيه العالم يتخلى عن الإجراءات الاحترازية في أواخر عام 2022، كان هناك انتشار كبير لفيروسي الإنفلونزا والمخلوي التنفسي، كأحد توابع جائحة «كوفيد – 19»، وهو ما أضاف مزيداً من الضغوط على الأطقم الطبية.
ويوضح سالمان، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أنه «مع قرارات الإغلاق من 2019 وحتى 2022، بسبب كوفيد - 19، تراجعت الإصابات بفيروسات الإنفلونزا، ما استتبع تراجعاً في معدلات المناعة القادرة على تحجيم خطر الفيروس. والشيء نفسه تكرر مع (الفيروس التنفسي المخلوي)، الذي شهد خلال العامين الماضيين تراكماً في الطفرات».
وكانت جمعية العناية المركزة في ألمانيا، أشارت، في بيان رسمي خلال شهر ديسمبر الماضي، إلى «وضع كارثي» بالمستشفيات نتيجة الزيادة الموسمية في حالات الإصابة بفيروس الجهاز التنفسي المخلوي، والإنفلونزا ونقص الممرضات. وأوضحت أن «مسحاً حديثاً أظهر أن عدد أسرة الأطفال المتاحة لا يتجاوز 100 سرير، في جميع أنحاء البلاد، وأن الوضع قد يزداد سوءاً»
وطالبت جمعية مستشفيات الأطفال والأكاديمية الأميركية لطب الأطفال، في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الحكومة الأميركية، بإعلان الفيروس المخلوي التنفسي «حالة طوارئ وطنية»، وذلك بعد أن «حطم كثير من المستشفيات الأرقام القياسية في عدد الأطفال المصابين».
تراجع التطعيم
وبشكل غير مباشر، تسببت الجائحة في تراجع معدلات التطعيم ضد الأمراض الأخرى. وحسب بيان مشترك لمنظمة الصحة العالمية و«اليونيسيف» صدر في يوليو (تموز) من العام الماضي، «تم تسجيل أكبر انخفاض متواصل لمعدلات تطعيم الأطفال منذ ما يقرب من 30 عاماً».
ووفق البيان، فقد «انخفضت النسبة المئوية للأطفال الذين تلقوا 3 جرعات من اللقاح المضاد للخناق والكزاز والسعال الديكي (اللقاح الثلاثي) بمقدار 5 نقاط مئوية في الفترة من عام 2019 إلى عام 2021، لتستقر هذه النسبة عند 81 في المائة. كما انخفضت نسبة التغطية بالجرعة الأولى من الحصبة إلى 81 في المائة في عام 2021، وهو أدنى مستوى يسجل منذ عام 2008. وبالمقارنة مع عام 2019، لم يتلقَّ 6.7 مليون طفل آخر الجرعة الثالثة من لقاح شلل الأطفال. فيما لم يتلقَّ 3.5 مليون طفل الجرعة الأولى من لقاح فيروس الورم الحليمي البشري، الذي يحمي الفتيات من سرطان عنق الرحم في مرحلة لاحقة من العمر».
ونتج عن ذلك، رصد حالات من مرض شلل الأطفال في دول غنية مثل أميركا وبريطانيا، ورصد عدد كبير من الحالات في دول فقيرة ونامية.
لكن الجائحة لم تكتفِ بالتأثيرات غير المباشرة على شؤون الصحة العامة. وواصلت وجودها عبر ما يعرف بـ«كوفيد - 19 طويل الأمد»، وهي أعراض تلازم المرضى بعد تعافيهم من الفيروس. وتشمل الإرهاق، ومشاكل التنفس، والتشوش الذهني. وتشير دراسات إلى «احتمالية تسبب الفيروس في الإصابة ببعض الأمراض غير السارية؛ مثل السكري، والقلب، ولكن هذا الأمر لا يزال بحاجة إلى مزيد من الدراسات»، كما يؤكد سالمان.
ويقول سالمان إن «هناك حاجة لمعرفة ما إذا كان المرضى الذين تم تسجيل إصابتهم بالسكري على سبيل المثال، قد أصيبوا بالمرض قبل أو بعد (كورونا)».
لقاحات «الرنا مرسال»
لكن على صعيد آخر، كان للجائحة تأثير «إيجابي» في الملف الصحي، حيث تأكد العالم من فاعلية تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال (الرنا مرسال) المستخدمة في إنتاج لقاحات «فايزر» و«موديرنا»، وهو ما أعطى زخماً لهذه التقنية، لتتم تجربتها في إنتاج أدوية متعددة.
ويستخدم هذا النوع من اللقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال، المعدل وراثياً لإعطاء الخلايا تعليمات بكيفية إنتاج البروتين الشوكي الموجود على سطح فيروس «كوفيد - 19» (بروتين سبايك). وبعد تلقي اللقاح، تبدأ خلايا العضلات في إنتاج قطع البروتين، ثم توزيعها على سطح الخلايا، ما يدفع الجسم لتكوين أجسام مضادة قادرة على محاربة الفيروس عند تكرار الإصابة.
وبالآلية نفسها، أعلن فريق بحثي مشترك من جامعة أوريغون للصحة والعلوم، وجامعة ولاية أوريغون بأميركا في يناير الماضي، عبر بحث نشر بدورية «ساينس أدفانسيس»، عن تطوير جسيمات نانوية دهنية (كرات صغيرة من الدهون)، لإيصال الحمض النووي الريبوزي المرسال داخل العين، لإعطاء الخلايا تعليمات بإنتاج البروتين الفلوري الأخضر، الذي يعمل على تعديل الطفرات الجينية التي تضر برؤية العين.
وأعلن أكثر من فرقة بحثية حول العالم استخدام الآلية نفسها لعلاج أمراض السرطان، واضطرابات التمثيل الغذائي، وكسور العظام، والتهابات المفاصل وغيرها.
أخطر أزمة تعليمية
ولا تقل أزمة القطاع التعليمي خطورة عن أزمة القطاع الصحي، حيث وصف خايمي سافيدرا، المدير العام لقطاع الممارسات العالمية للتعليم بمجموعة البنك الدولي، تأثير الجائحة بأنه «أخطر أزمة تعليمية» في الزمن المعاصر.
وقال في مدونته على الموقع الرسمي للبنك الدولي، إن «الأزمة تسببت في انقطاع أكثر من 1.6 مليار طفل وشاب عن التعليم في 161 بلداً، أي ما يقرب من 80 في المائة، من الطلاب الملتحقين بالمدارس على مستوى العالم».
وبينما أتيح للطلاب في البلدان المتقدمة خدمات التعليم عن بعد، لوجود بنية تحتية تساعد في ذلك، لم يكن ذلك متاحاً في البلدان الأقل دخلاً، بل إن تلك الخدمة شهدت تباينات داخل الدول مرتفعة الدخل، إذ اعتمدت درجة استفادة الطلاب منها على المستوى التعليمي للأب والأم، حيث تحتاج مثل هذه الخدمات لدعم منزلي، كما أكد سافيدرا.
ولفت التقرير إلى أن «هذا النمط التعليمي ليس مثالياً، لأنه لا يتيح تفاعلاً شخصياً بين المعلم والطالب، وهو ما أدى إلى خسائر تعلم فعلية».
وكان المركز الوطني لإحصاءات التعليم في أميركا، قد أشار إلى جانب من هذه الخسائر، عندما قال في تقرير أصدره في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، إن جائحة «كوفيد - 19» تسببت في «انتكاسة تعليمية» تاريخية لأطفال أميركا، و«قضت على عقود من التقدم الأكاديمي».
وأرجع المركز ذلك إلى أن «الطلاب بعد أن عادوا إلى المدارس عقب شهور من التعليم عن بعد، خضعوا لامتحان في الرياضيات، وشكلت نتائج الاختبار انخفاضاً تاريخياً في الدرجات، حيث فشل 4 من كل 10 طلاب بالصف الثامن في المدارس على مستوى الولايات الأميركية في فهم مفاهيم الرياضيات الأساسية».
وعبرت وقتها بيجي كار، مفوضة المركز الوطني لإحصاءات التعليم، في تصريحات لوكالة «أسوشييتد برس»، عن قلقها، قائلة إن «هذه النتائج جرس إنذار، فعندما كان يحدث انخفاض بمقدار نقطة أو نقطتين، كان يتم الحديث عن تأثير مهم على إنجاز الطالب، لكن في الرياضيات، حدث انخفاض بمقدار 8 نقاط، وهو أمر تاريخي لهذا التقييم».
وربما كان المستفيد الوحيد من التحول نحو التعليم عن بعد هو منصات اتصالات الفيديو، مثل منصة «زووم»، التي كانت تستخدم بشكل أساسي في توفير هذه الخدمة.
وحققت الشركة أرباحاً خلال عام 2021 بلغت 316.9 مليون دولار، غير أن العودة مجدداً إلى النمط التقليدي للتعليم في المدارس هبط بأرباحها، إلى 45.7 مليون دولار في 2022.
فرص وتحديات
وكما أحدثت الجائحة رواجاً في خدمات «التعليم عن بعد»، فعلت الشيء نفسه مع العمل، حيث راج مفهوم «العمل عن بعد»، وهو العمل غير المباشر الذي يتم أداؤه من مسافات بعيدة عن المكتب أو مقر العمل، ويتم التواصل مع العاملين عبر الاتصالات السلكية واللاسلكية أو الحاسب الشخصي.
وإذا كان «التعليم عن بعد» لا يعد خياراً مثالياً، فإن «تجربة العمل عن بعد، حققت كثيراً من المزايا»، التي يرى محمد البنا، أستاذ العلوم الإدارية بجامعة الزقازيق (شمال شرقي القاهرة)، أنها «قد تدفع المؤسسات إلى التوسع فيها، لأنها تحقق مصلحة للعامل والمؤسسة، بل والدولة ككل».
ويقول البنا لـ«الشرق الأوسط»، إنه «بالنسبة للوظائف التي يمكن أداؤها عن بعد، فالموظف لن يضيع وقتاً في الذهاب إلى مقر العمل، ومن المفترض أن يضاعف ذلك من إنتاجيته، كما يوفر مصروفات الانتقال، ويتيح هذا النمط من العمل فرصاً وظيفية في أماكن بعيدة عن مقر الإقامة، لم تكن متاحة من قبل».
ويضيف البنا أنه «بالنسبة للمؤسسة أو صاحب العمل، فهي تستفيد عبر تخفيض المصاريف التشغيلية لمواقع العمل؛ مثل الكهرباء، والماء، والنظافة، والحراسة، ومواقف السيارات. في حين يساعد هذا النمط الدولة عبر تقليل الازدحام المروري، ما ينعكس إيجابياً على البيئة».
لكن ورغم هذه المزايا، فإن «العمل عن بعد» يحتاج إلى بعض الضوابط، التي يشير إليها البنا، ومنها «وضع آليات تضمن الالتزام بحجم الإنتاج المطلوب خلال ساعات العمل، والحفاظ على أمن المعلومات، وقبل ذلك توفير البرامج التقنية اللازمة لتطبيقه».
وإذا اعتبر «العمل عن بعد» بمثابة فرصة خلقتها الجائحة، فإنها في المقابل ضربت سوق العمل بهزة ارتدادية عنيفة، وهو ما دفع منظمة العمل الدولية إلى القول في تقرير أصدرته في 17 يناير (كانون الثاني) 2022، إن «الآفاق لا تزال هشّة والطريق إلى التعافي بطيء وغير مؤكد».
وقدرت منظمة العمل الدولية في هذا التقرير، وصول عدد العاطلين عن العمل إلى 207 ملايين شخص في عام 2022، مقابل 186 مليون عاطل عن العمل في عام 2019، قبل الوباء.
الاستعداد للجائحة المقبلة
وأثناء مواجهة هذه الهزات الارتدادية الصحية والاجتماعية، يؤكد الخبراء أهمية استيعاب درس «زلزال كوفيد»، لأن تلك الجائحة لن تكون الأخيرة.
فكما أن الفوالق النشطة التي شهدت زلازل في تاريخها، تكون على موعد بعد فترة طويلة من الزمن مع زلزال جديد، فإن نمط ظهور الفيروسات يشير إلى أن العالم سيكون على موعد كل فترة من الزمن مع جائحة جديدة.
وسبق وأكد تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، هذا المعنى، عندما قال في 27 ديسمبر أثناء الاحتفال باليوم الدولي الأول للتأهب للأوبئة، إن «التاريخ يخبرنا أن (كوفيد - 19) لن يكون الوباء الأخير، لأن الأوبئة هي حقيقة من حقائق الحياة».