جريدة الأخبار
من البديهي أن كل ما يحدث أوّل مرة يصحّ تصنيفه كإنجاز. لكنّ وزير الصحة العامة، فراس الأبيض، يتصرّف وكأن كل ما يحدث في الوزارة يحدث للمرة الأولى. وهذا بات عرفاً راسخاً لدى الوزير الذي أخرج من حساباته أن العمل الوزاري استمرارية، وذهب إلى تصنيف كل ما يقوم به في خانة الإنجاز الشخصي، حتى ولو كان نسخاً لعمل بدأ سابقاً، ولكن بتوليفة جديدة. في دولة مفلسة، وقطاع صحي واستشفائي في الحضيض، «يبعزق» أبيض 30 مليون دولار على مشاريع مستنسخة، من دون المرور بالآليات القانونية
نهاية عام 2018، وافق المجلس النيابي على قرضٍ من البنك الدولي للإنشاء والتعمير بقيمة 120 مليون دولار لدعم القطاع الصحي. بحسب الخطة، آنذاك، كان يفترض أن يُخصص هذا المبلغ لتعزيز مبدأ الرعاية الصحية الأولية على مدى خمس سنوات. غير أن المشروع لم يكتمل. جائحة «كوفيد - 19» وما رافقها من أزمة مالية حادة، دفعت إلى تحويل مسار جزءٍ من القرض، إذ قرّر مجلس الوزراء بموافقة البنك الدولي تخصيص 40 مليون دولار أميركي لدعم وزارة الصحة العامة في التصدي للأزمة «ضمن برنامج الاستجابة السريعة لتفشي كورونا في لبنان (...) عبر تجهيز المستشفيات الحكومية وزيادة قدرتها على علاج الحالات المشتبه في إصابتها».
مرّ الكوفيد وانتهت فترة «الاستجابة الطارئة» التي بلغت كلفتها ما أقرته الحكومة، مضافاً إليها 20 مليون دولار، فيما بقي من القرض المفترض لدعم الرعاية 60 مليوناً. إلا أنه مع تمدّد الأزمة وارتفاع سعر صرف الدولار الذي انعكس تضخماً في فواتير الاستشفاء، قرّر مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح وزارة الصحة، حجز 30 مليون دولار من المبلغ المتبقي لتغطية نفقات الاستشفاء، وتركت الثلاثين الأخيرة للرعاية «لأن البنك الدولي لن يقرّ بما تبقّى ما لم تُعط نسبة منه للرعاية»، بحسب المصادر سنداً إلى ما هو متعارف عليه.
وبما أن الأموال لا يمكن صرفها من دون دراسة جدوى لتقرير وجهتها، ارتأى وزير الصحة العامة، فراس أبيض، أن يرسم سيناريو لتوزيع هذه الملايين، وخرج بفكرة عبقرية تقول بتقسيم المبلغ إلى جزءين: الأول بقيمة عشرة ملايين دولار والثاني بقيمة 20 مليوناً. ومن بين الأفكار - الإنجازات التي سار بها تخصيص الملايين العشرة لبرنامج تدريب مستمر عبر توقيع عقود مع الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة البلمند لتدريب ممرضين وأطباء طب عام لتحويلهم إلى أطباء عائلة. كما خصّص جزءاً من هذا المبلغ لتوقيع عقد مع شركة التأمين «غلوب ميد» من أجل إجراء تدقيق (audit) للعقود الرعائية.
في الشق المتعلق بهذا المبلغ، ولأن الحكم (ومن ضمنه العمل الوزاري) استمرارية، كان يفترض بالوزير أن يعود خطوات إلى الخلف بإعادة إحياء برنامج التدريب الذي كان معمولاً به بناءً على عقد موقّع بين الجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية لتدريب طلاب طب عام وتحويلهم إلى طب عائلة (توقّف بسبب جائحة كورونا والأزمة المالية). وهو برنامج لم يسقط بـ«الباراشوت»، كما يحدث اليوم، حيث يتخذ الوزير قراراً منفرداً بتوقيع عقود واتفاقيات مع الجامعات من دون المرور بأيّ آلية قانونية. فالبرنامج السابق حُوّلت دراسته إلى ديوان المحاسبة الذي وافق وأشرف على الملف الذي «بلغت كلفته نحو 300 مليون ليرة، أي ما يعادل 200 ألف دولار في ذلك الوقت». وانطلقت في حينه الدفعة الأولى التي استهدفت 40 طبيباً «عملنا على تدريبهم في مستشفيي الجامعة الأميركية وبيروت الحكومي وفي الجامعة اللبنانية، وانتهينا بالفعل من الدورة الأولى وأجرينا الامتحانات، إلا أن الطلاب لم ينالوا شهادات تخرّجهم بسبب الأوضاع التي حلّت منذ تشرين الأول 2019»، على ما يقول العميد السابق لكلية الطب في الجامعة اللبنانية، بيار يارد. وكان من المفترض أن يبدأ العمل على تدريب دفعة جديدة من 40 طبيباً لم تكتمل هي الأخرى «لأن أحداً من الوزراء لم يهتم للموضوع».
يتخذ الوزير قرارات منفردة بتوقيع عقود واتفاقيات من دون المرور بأيّ آلية قانونية
اليوم، قرّر الوزير أبيض أن «ينطّ» فوق البرنامج الموجود، لاستبداله ببرنامج مطابق «يعني COPY - PASTE» وإنما ببصمته. والبصمة بالنسبة إليه هي الإنجاز الذي سيحمل في ما بعد اسمه، ليقال بعدها: «على إيام الوزير أبيض»!. هكذا، ومن دون حسابات لما سبق ومن دون المرور حتى بالآلية التي تفرض العودة إلى ديوان المحاسبة، وقّع أبيض عقداً مع الجامعة الأميركية لتدريب ممرضين وآخر مع البلمند لتدريب الأطباء. وفي ذلك، يكسب الوزير الرهان، فمن جهة حقّق الإنجاز ومن الأخرى «فتح على الأكاديمي». بشطبة قلم، نسخ ما كان بـ«EDITION» جديدة، كما حصل سابقاً في برامج أخرى منها الـ«مديتراك». وهو ما ليس مفهوماً حتى اللحظة، ما الجدوى من تكرار البرنامج نفسه بعقدٍ جديد... طبعاً غير صرف مبلغٍ هائل من المال؟
انتهى أبيض من العشرة الأولى، وبدأ دراسته للعشرين مليوناً التي تقرّر أن تصرف لمراكز الرعاية. وهذه المرة أيضاً، كان القرار «منزلاً» من مكتب الوزير، إذ رغم الاجتماعات والنقاشات التي جمعت المعنيين بمراكز الرعاية، قرّر الوزير وفريقة وجهة صرف المبلغ «من خلال اختيار 40 مركزاً للرعاية لدعمها ودعم 170 ألف مستفيد من العائلات الأكثر فقراً ببطاقات صحية ممغنطة يستخدمونها في المراكز المدعومة».
لكن، السؤال: كيف ستتم عملية الاختيار وخصوصاً أن هناك 193 مركزاً للرعاية من أصل 293 بحاجة إلى الدعم لا 40 فقط، «لكون المراكز الـ100 المتبقية تحظى بدعم من الاتحاد الأوروبي»؟ وهل ستأخذ المعايير التي يعمل على صياغتها اليوم «مقاس» احتياجات المراكز والأولويات أم أنها ستكون مرسومة على مقاساتٍ تناسب ما يريده هو؟ وكيف ستتم عملية المراقبة؟ كل تلك الأسئلة لم ينجح المعنيون في الوزارة في الحصول على أجوبتها، حتى وصلت النقاشات في الفترة الأخيرة إلى محاولة الطلب من الوزير العمل على اختيار «100 مركز بالحد الأدنى لتوزيع الدعم أو تقرير حاجات كل المراكز وتوزيع الأموال بما يسمح للكل بالاستفادة»، خصوصاً أن هناك مشروعاً موجوداً منذ عام 2015 للرعاية ويمكن الاستفادة منه بدلاً من الانطلاق من نقطة الصفر. غير أن أياً من تلك الطروحات لم يؤخذ في الاعتبار. أنا «ربّكم الأعلى». تكاد تختصر تلك العبارة ما يفعله أبيض داخل وزارته وكيف يقرّر «مقاسات» الخدمات وكيفية صرف الأموال التي لا يُفهم على أساس أيّ دراسة جدوى تُصرف، علماً أن هذه القرارات دونها مراحل كثيرة «ليس أقلها تدريب المراكز وفتح حسابات لها في المصارف وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى شهور من العمل». أما الأنكى من ذلك، فهو أنه بصدد استعراض آخر الإنجازات الأسبوع المقبل مع وزير الشؤون الاجتماعية، هيكتور حجار، للإعلان عن نية الوزارة دعم 170 ألف مستفيد ببطاقة صحية ممغنطة. هو «إنجاز» آخر بالنسبة إليه، ولكن تكفي العودة بالذاكرة عهوداً إلى الوراء لاكتشاف أن هذه البطاقة سبقتها «9 نماذج بطاقات أقرها 9 وزراء سابقين ولم يستفد منها أحد... وما مِشْيوا».
ماذا يحاول الأبيض أن يفعل؟ بكلمة واحدة: أن يصرف الثلاثين مليوناً المتبقية، «من دون أن يكون هناك أدنى جواب عن سؤال: هل سيكون الصرف لصالح الناس؟».