ارتفعت حدة التحذيرات في الفترة الماضية داخل المجتمعات الطبية الغربية، وتحديداً في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، من إمكانية انتشار فيروس حمى القرم ـ الكونغو النزفية (CCHF). وتشير التقارير الصحافية إلى أن الإعلان عن وجود حالات مصابة بهذا الفيروس، والتي ظهرت في مناطق مختلفة حول العالم مثل العراق وباكستان ونامبيا، التي سجلت وفيات إثر انتشار هذا الفيروس، أثار مخاوف من سيناريو مشابه لجائحة كورونا.
ويتسبب فيروس حمى القرم ـ الكونغو النزفية في وقوع فاشيات الحمى النزفية الفيروسية الوخيمة، ويبلغ معدل الوفيات الناجمة عن هذه الفاشيات ما بين 10 و40 في المائة.
ويخشى العديد من خبراء الصحة من احتمال أن يتسبب انتشار هذا الفيروس على نطاق واسع في فرض إغلاقات على غرار ما حصل إبان انتشار فيروس كورونا، وتأثير ذلك على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وجاءت هذه المخاوف تحديداً بعد الإحاطة التي قدمها البروفيسور جيمس وود إلى لجنة العلوم والابتكار والتكنولوجيا بالبرلمان البريطاني خلال الشهر الحالي حول تهديد الأمراض الناشئة. وقال: "هناك مستوى عالٍ من عدم اليقين فيما إذا كان سيصل المرض إلى المملكة المتحدة خلال خمس سنوات، أو 15، أو 25".
ما هو فيروس حمى القرم - الكونغو النزفية؟
تعرف منظمة الصحة العالمية حمى القرم ـ الكونغو النزفية (CCHF) بأنه مرض واسع الانتشار يسببه فيروس تحمله حشرة القراد (الفيروسة النيروبية) التي تنتمي إلى عائلة فيروسات بونيا. ويتوطّن الفيروس بلدان أفريقيا والبلقان والشرق الأوسط وآسيا الواقعة جنوب خط العرض 50 درجة شمالاً، وهي الحدود الجغرافية للقراد الناقل الرئيسي للعدوى.
وينتقل الفيروس إلى البشر إما عن طريق لدغة القرادات أو بالاتصال المباشر بدم أو أنسجة الحيوانات المصابة أثناء الذبح أو بعده مباشرة. وظهرت معظم الحالات بين صفوف العاملين في صناعة تربية الماشية، مثل العمال الزراعيين وعمال المجازر والأطباء البيطريين.
وينتقل الفيروس من إنسان إلى آخر نتيجة الاتصال المباشر بدم الشخص المصاب أو إفرازاته أو أعضائه أو سوائل جسمه الأخرى. وقد ينتقل الفيروس أيضاً إلى المرضى في المستشفيات نتيجة سوء تعقيم المعدات الطبية وإعادة استخدام الإبر وتلوث اللوازم الطبية.
تستضيف مجموعة واسعة من الحيوانات البرية والأليفة فيروس حمى القرم ـ الكونغو النزفية منها الماشية والأغنام والماعز. ويمكن لعديد من الطيور مقاومة العدوى، لكن النعام سريع التأثر وتنتشر العدوى بين صفوفه في مناطق تَوطّن الفيروس، حيث يمثل النعام السبب الأصلي وراء حالات الإصابة البشرية. وعلى سبيل المثال، فقد سبق اندلاع فاشية للفيروس في مسلخ للنعام في جنوب أفريقيا. ولم يظهر أي مرض على هذه الحيوانات.
وتُصاب الحيوانات بالعدوى عن طريق لدغة القرادات المصابة بالعدوى ويظل الفيروس في مجرى دم الحيوانات لمدة أسبوع تقريباً بعد إصابتها بعدواه، ما يسمح باستمرار دورة انتقال العدوى من القرادات إلى الحيوانات ثم منها إلى القرادات ثانيةً عندما يلدغها قراد آخر. وعلى الرغم من أن عدداً من أجناس القراد يمكن أن تصاب بفيروس حمى القرم ـ الكونغو النزفية إلا أن الناقل الرئيسي للعدوى هو جنس "القراد الزجاجي العين".
إلى ذلك، يقول اختصاصي أمراض الدم والأورام الخبيثة معين مبارك لـ "العربي الجديد": "بدأ الحديث عن هذا المرض مؤخراً"، لافتاً إلى أنه "يثير علامات استفهام عدة، ويمكن أن يصنف من الملفات الطبية الشائكة التي تستوجب شرحاً مطولاً". يضيف: "على الرغم من أن المرض موجود منذ منتصف القرن الماضي، إلا أن الاستجابة الصحية سواء على نطاق اللقاحات أو العلاجات لم تكن ذات فاعلية، أو بمعنى أدق لم يعط خبراء الصحة الأهمية المطلوبة لإيجاد لقاحات خاصة به".
يستوطن فيروس الحمى النزفية بلدان أفريقيا والبلقان والشرق الأوسط وآسيا
ويشير مبارك إلى أن "العلاجات المتوفرة لهذا النوع من الفيروس لا تزال في إطار ضيق، وما من علاج فعال للشفاء من الفيروس أو الوقاية منه. وعادة، يتم وصف بعض الأدوية الخاصة لخفض الحرارة، ومضادات لمساعدة المرضى على تجاوزه".
من جهته، يتفق اختصاصي أمراض الدم الدكتور سليم نون مع رأي مبارك، مشيراً إلى أن "تسليط الضوء على المخاوف بشأن انتشار الفيروسات أو الأمراض المعدية بات مرتفعاً في الآونة الأخيرة، وخصوصاً بعد موجة كورونا وتأثيراته. وفي الفترة الأخيرة، كثر الحديث عن حمى القرم ـ الكونغو النزفية على اعتبار أنه من الأمراض المعدية والمميتة".
ويقول لـ "العربي الجديد": "يحدث هذا الفيروس بشكل طبيعي، ويرتبط بأنواع مختلفة من الفيروسات، وفي مقدمتها فيروس nairovirus الذي ينتشر من خلال تغذية القراد المصابة وهو منخفض الخطورة على البشر إلى حد ما، إلا في حال كان هناك تواصل بين البشر والحيوانات المريضة". يضيف: "بمجرد انتقال الفيروس إلى البشر، ترتفع حدة المخاوف، لأن انتقال الفيروس بين البشر قد يكون أسرع من انتقاله بين الحيوانات. وفي ظل غياب أية آليات محددة للعلاج، تزداد المخاوف من حدوث وفيات وتحوله إلى جائحة".
يعتبر نون أن البروتوكولات الطبية التي وضعتها منظمة الصحة العالمية كانت واضحة بشأن التعامل مع الأوبئة والأمراض المعدية، وذلك من خلال وضع توجيهات معينة للمتخصصين ومطالبة السلطات المحلية بضرورة الإبلاغ عن أية حالات يشتبه بها.
بحسب منظمة الصحة العالمية، يعتمد طول فترة حضانة المرض على طريقة اكتساب الفيروس. فبعد الإصابة بالعدوى عن طريق لدغة القرادات، تتراوح فترة الحضانة عادةً ما بين يوم وثلاثة أيام، وبحد أقصى تسعة أيام. أما فترة الحضانة بعد الاتصال بدم أو أنسجة ملوثة فتتراوح بين خمسة وستة أيام، وقد وصلت في بعض الحالات الموثقة إلى 13 يوماً.
وتظهر أعراض المرض فجأة، ومنها الحمى وآلام العضلات والدوخة وآلام الرقبة وتيبسها وآلام الظهر والصداع والتهاب العيون والحساسية للضوء. ومن الأعراض التي قد تظهر في بداية الإصابة بالفيروس الشعور بالغثيان والقيء والإسهال وآلام البطن والتهاب الحلق، تليها تقلبات مزاجية حادة وارتباك. وقد يحل محل هذا التهَيج الشعور بالنعاس والاكتئاب والتراخي بعد يومين إلى أربعة أيام، وقد تتركز آلام البطن في الربع العلوي الأيمن مع حدوث تضخم ملحوظ في الكبد. ومن العلامات السريرية، سرعة نبضات القلب وتضخم الغدد اللمفاوية وظهور طفح نمشي (طفح ناتج عن النزف تحت الجلد) على البطانة الداخلية المخاطية كتلك الموجودة في الفم والحلق وعلى الجلد.
يقول اختصاصي الأمراض المخبرية حسن عياش لـ "العربي الجديد" إنه "في لبنان، لم يتم تسجيل أي إصابة بالمرض. وعلى الرغم من ذلك، فإن وزارة الصحة وضعت بروتوكولاً طبياً تلزم بموجبه المستشفيات التي تشتبه بإمكانية الإصابة بهذا المرض، أو أي فيروس آخر، بضرورة إجراء فحوصات مخبرية، من خلال سحب عينات من الدم". يضيف أنه "عادة يجرى سحب عينات من الدم للكشف عن نوع المرض، سواء أكان حمى القرم أو الملاريا أو غيرها من الأمراض الوبائية. وعادة تجري الفحوصات المخبرية كإجراء وقائي، وخصوصاً في حال كان المصاب يعاني من ارتفاع درجات الحرارة وإسهال شديد".
وبحسب بيانات سابقة جمعها موقع أكاديمية أكسفورد البريطاني، تم تسجيل 1721 حالة مصابة مؤكدة منذ انتشار المرض عام 1953 وحتى 2012، فيما تشير بيانات أخرى نشرتها مواقع أوروبية إلى أن هناك مئات الحالات التي قد تصاب بهذا الفيروس حول العالم. وبحسب الدراسات، سجلت منطقة البحر الأسود وبعض أجزاء آسيا الوسطى مستويات عالية من المخاطر بسبب الفيروس، مع وجود مناطق أكثر خطراً، وخصوصاً منطقتي الساحل والرأس في أفريقيا. كذلك، يمكن أن تكون كل من تركيا وإيران ورومانيا ومولدوفا وأوكرانيا مع بعض أجزاء جنوب غربي روسيا وسورية والعراق وآسيا الوسطى من بين الدول التي تتضمن مخاطر عالية لإمكانية ظهور المرض.
طرح العديد من الخبراء فرضيات حول إمكانية أن يكون هذا المرض بمثابة وباء جديد. وقد نشر التحالف العالمي للقاحات والتحصين (Gavi) هذه الفرضية، واعتبر في تقرير له نشره على موقعه الإلكتروني أن تغيّر المناخ وإساءة استخدام الأراضي، وتجارة الحيوانات المصابة يمكن أن تجعل هذا المرض الفتاك أكثر شيوعاً، بالإضافة إلى عوامل أخرى تتعلق بأمور لوجستية طبية.
وبحسب التحالف، يصنف الفيروس على المستوى 4 من السلامة الحيوية، مما يعني أنه يسبب عدوى قاتلة في كثير من الأحيان لدى البشر ولا يوجد علاج فعال له. كذلك، فإن ارتفاع معدل الوفيات وغياب الأدوية أو اللقاحات الفعالة هي سبب آخر تجعل إمكانية انتشاره واسعة النطاق. لهذه الأسباب، تم إدراجه في قائمة أولويات منظمة الصحة العالمية للبحث والتطوير وقائمة أولويات المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية، كمرض يشكل أعلى مستوى من المخاطر على الأمن القومي والصحة العامة. كما تم التعرف إلى الفيروس كعامل إرهاب بيولوجي محتمل، وتمت دراسته كسلاح بيولوجي محتمل في العراق.