كشفت خطة الطوارئ الطبية التي تعدّها نقابة الأطباء في بيروت لمواجهة أي حرب محتملة نقصاً فادحاً في أعداد الأطباء خصوصاً من يُعتمد عليهم في أوقات الحروب والكوارث. نتيجة الهجرة التي أعقبت الانهيار المالي، يبلغ النقص في أطباء الطوارئ 90%، فيما أطباء التخدير والانعاش أشبه بعملة نادرة، وفي بعض الاختصاصات، كزرع الكلى مثلاً، فإن «الركّ» هو على ثلاثة أطباء فقط!
في اليوم التالي لاندلاع المواجهات مع العدو الصهيوني في الجنوب، انخرطت نقابة الأطباء في بيروت في ورشة عملٍ للتحضير لخطّة طوارئ طبيّة ترافق «الجبهة» وتكون جاهزة في حال اندلاع حرب. وكان طبيعياً أن تبدأ الورشة بـ«تقدير طاقتنا الطبية»، بحسب نقيب الأطباء في بيروت يوسف بخاش، أي إجراء إحصاء تقريبي لعدد الأطبّاء، وما إذا كان يفي بالمطلوب أم لا. لا أرقام نهائية بعد عن «النواقص» في كل اختصاص، علماً أنّ الواقع الطبي حالياً أقل سوءاً منه عمّا كان عليه بعد أحداث عام 2019 والانهيار الاقتصادي، وما أديّا إليه من هجرة للأطباء بلغت ذروتها عام 2021 عندما سُجّلت هجرة حوالى 3500 طبيب. ففي العام الماضي ومطلع العام الجاري، كانت هناك مؤشرات تدلّ على أنّ التعويض بات ممكناً، مع عودة «حوالى 40% من الأطباء الذين هاجروا»، وفقاً لبخاش.
لكنّ هذه العودة لم تشمل جميع الاختصاصات التي بقي النقص كبيراً في بعضها. ففي الاختصاصات التي تبرز الحاجة إليها في أوقات الحرب (الاختصاصات الجراحية الكلاسيكية كجراحة العظم والترميم والشرايين والأعصاب والدماغ والوجه والفكّ والعين وأمراض الدم، إضافة إلى أطبّاء الطوارئ والتخدير والإنعاش)، تتأرجح الأعداد بين ما «يمكن أن يلبّي الحاجات المطلوبة للمواجهة، وما يمكن اعتباره كارثياً». ففي معظم اختصاصات الجراحة الكلاسيكية، «العدد متوافر بالمبدأ»، ولكن لدى الدخول في التفاصيل يبرز النقص الذي يثير الهلع. وفي هذا السياق، يشير نقيب الأطبّاء إلى نقص فادح في اختصاص جراحة القلب الدقيقة وجراحة الدماغ والشرايين. ويضيف نقيب أصحاب المستشفيات الخاصّة، سليمان هارون، إلى ذلك أيضاً النقص في جراحة الشرايين وجرّاحي زرع الكلى، إذ إنّ عدد هؤلاء، بحسب طبيب الكلى عضو نقابة الأطباء، سعد بو همين، ثلاثة فقط تتم «استعارتهم» من قبل المستشفيات. ويصبح النقص «كارثياً» لدى الحديث عن أطباء الطوارئ الذين يقلّ عددهم «عشرة أضعاف عمّا نحن بحاجة إليه». ففي وقت تحتاج المستشفيات إلى 400 طبيب طوارئ، لا يوجد اليوم سوى نحو 40 طبيباً. والأمر نفسه ينسحب على أطباء التخدير والإنعاش، إذ إنّ كثيراً من المستشفيات تعمل بطبيب واحد، وفي بعض الأحوال، «يخدم» طبيب واحد في أكثر من مستشفى. ومع الحرب، سيُستنزف هؤلاء ولن يكونوا قادرين على الصمود لمدّة طويلة.
وتكمن خطورة النقص أنه يتركّز تحديداً في الاختصاصات الفرعية الدقيقة. ففي جراحة العظام مثلاً، يفتقد النظام الطبّي إلى أطبّاء متخصّصين في جراحة المفصل والركبة، وكذلك في جراحة شرايين تقع أسفل الرأس. وهذا «بحدّ ذاته يمثّل تحدياً، في حال اندلعت حرب»، وفقاً لهارون. وما يزيد الخشية في أي مواجهة مقبلة مع العدو هو انقطاع التواصل وصعوبة الانتقال من منطقة إلى أخرى مع تقطّع الطرقات. عندها، لا يعود المتوافر يفي بالمطلوب، خصوصاً عندما يكون الطبيب عاملاً في أكثر من مستشفى.
من هنا، عملت خطة الطوارئ الطبية لنقابة الأطبّاء على محاولة إيجاد «بدلاء» لسدّ الحاجة. وتركّزت جهود النقابة على تشكيل فرق تعليمية تدريبية، بالتعاون مع وزارة الصحة والمنظمات الدولية، مكوّنة من 4 أشخاص، من بينهم طبيب طوارئ، للتجوّل في المناطق وتدريب العاملين في أقسام الطوارئ في مستشفيات المناطق الأمامية على كيفية التعامل مع جرحى الحرب وتوزيعهم على المستشفيات، على أن يقوم المدرَّبون لاحقاً بتدريب آخرين في المراكز التي يعملون فيها لتعويض النقص.
لا تنحصر خطّة الطوارئ الطبية في التدقيق بأعداد الأطبّاء ومحاولة سدّ النقص في الاختصاصات الطبية فقط، بل ذهبت إلى رسم خطّة متكاملة للقطاع الطبّي يمكن تعميمها في حالات الحرب والكوارث وأي طارئ تتعرض له البلاد، بالتشبيك مع وزارة الصحة والهيئات والمؤسسات الدولية.
وفي ما يخصّ آلية العمل المفترضة في أيّ مواجهة مقبلة، تعمل الخطة وفقاً لمعيارين، أوّلهما لوجستي والآخر تعليمي - تدريبي. في الشقّ اللوجستي، أُعطيت الأولوية لكيفية توزيع الأطبّاء على المستشفيات التي تقع عند خطوط المواجهة وخطوط إخلاء المرضى، إذ إن التبليغ يقضي «بالتحاق كلّ طبيب بالمستشفى الذي يعمل فيه والمراكز التابعة له». ويتبع ذلك التواصل والتنسيق مع كلّ اللجان الطبية في المستشفيات، وتحديداً التي تقع ضمن خطوط إجلاء المرضى «لمعرفة ما إذا كانت بحاجة إلى اختصاصيّين معيّنين كي تعمل النقابة والجمعيات العلمية على تأمين ما هو مطلوب». أضف إلى ذلك دور النقابة الأساسي في حال تأزّم الأوضاع وانقطاع المواصلات «حيث تنشأ المستشفيات الميدانية التي تكون بحاجة إلى مدّها بالأطبّاء»، يقول بخاش. وفي النقطة الثالثة من الخطّة، يأتي دور الأطبّاء في أماكن النزوح. فمن المعروف أنّ الحروب تخلّف حركة نزوح كثيفة من الأماكن المتضرّرة إلى تلك التي تعدّ آمنة، ومن الطبيعي أن يكون من بين النازحين جرحى وآخرون يعانون من أمراض مزمنة لا يمكنهم ترك علاجاتهم أو قد يتعرّضون لحالات طارئة «لذلك عملت النقابة على التواصل مع جمعية الطبّ العام وطبّ العائلة، وهم بحدود 500 طبيب، ليكونوا على استعداد للمشاركة في علاج المرضى النازحين».
يفتقد النظام الطبّي إلى متخصّصين في جراحة المفصل والركبة وشرايين الرأس ما يمثّل تحدياً في حال اندلعت حرب
وإلى جانب المتابعة اللوجستية، بدأت النقابة منذ 3 أسابيع العمل على الناحية التعليمية مع إقامة جلسات نقاش، ومنها المؤتمر العام «المخصّص لتدريب الأطباء على كيفية معالجة إصابات الحرب، والذي جمع 900 طبيب، 400 منهم حضروا شخصياً و500 آخرين عبر تطبيق زوم».
وفي الجزئية الأخيرة من آلية العمل، تتطرّق الخطّة إلى طلب وزارة الصحة العامة من المستشفيات رفع جهوزيّتها، عبر تعزيز المخزون. من هنا، تساعد النقابة في تقدير حاجات المستشفيات في حال المواجهة الكبرى، استناداً إلى سيناريو تجربة غزة، وتجربة عام 2006 في لبنان. ومن الأمثلة التي يوردها بخاش وحدات الدم. والسؤال هنا: كم وحدة دم قد نحتاج في حربٍ أوسع من حرب الـ2006 وأقرب من حرب غزة؟ يجيب بخاش في إطار التخمين «في حرب عام 2006، دخل إلى المستشفيات حوالى 1200 جريح من أصل 4400، واحتاج هؤلاء إلى 400 وحدة دم (وحدة دم لكل 3 مرضى)، وإذا نظرنا إلى ما يحدث اليوم في غزة، هناك ما يقارب 21 ألف جريح في شهر، منهم 7 آلاف يحتاجون إلى دخول المستشفيات، ما يعني حاجتهم إلى 2300 وحدة دم، أي 2300 متبرّع والعدد نفسه سنحتاجه للأكياس». وهذا يوجب إعداد مخطّط لكيفية سحبها وتوزيعها على المراكز، لأنّ المستشفيات لن تكون قادرة وقتها على سحب العيّنات. وتُستكمل هذه الدائرة أيضاً بتدريب الأطباء على كيفية تزويد الجرحى بالدم، «يعني يعرفوا كم كيس دم يعطى للشخص المحروق وكم كيس مصل؟»، يقول نقيب الأطباء.
كذلك تأخذ المستلزمات والأدوية حيّزاً كبيراً من النقاش، خصوصاً تلك التي يكثر استخدامها في الحروب، ومنها المضادات الحيوية من الجيلين الثاني والثالث والمغروسات والصفائح وأجهزة التثبيت الخارجي التي تستخدم بكثرة في الحروب، وتصل نسبة استخدامها إلى 90 من 100. وفي هذا السياق، يؤكد بخاش أن العمل جارٍ اليوم على تعزيز المخزون من تلك المستلزمات والأدوية وغيرها من «معدّات» المواجهة، وتوزّع وزارة الصحة، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وغيرها، ما يتمّ الحصول عليه على عدد من المستشفيات في المناطق والمحافظات والأقضية، وتحديداً تلك التي تخوض المواجهة.
«المرضى المزمنون» في ساعة المواجهة
لا تنحصر تداعيات الحرب في التعامل مع الجرحى، وإنّما ثمّة ملف آخر لا يقلّ أهمية يتعلق بـ«المرضى المزمنين»، من السرطان مروراً بغسل الكلى وليس انتهاءً بمرضى القلب والسكّري وغيرها من الأمراض التي توجب علاجاً دائماً. وقد أنهت نقابة الأطباء تخميناتها لهؤلاء المرضى وتحديداً السرطان والكلى الذين يخضعون لجلسات علاج ثابتة في المستشفيات. وفي هذا الإطار، يتطرّق بخاش لأحوال مرضى غسيل الكلى لكون الواحد منهم يحتاج إلى 13 جلسة شهرياً من دون توقف. واستناداً إلى 4000 آلاف مريض، «يحتاج هؤلاء إلى 52 ألف جلسة ومثلها عدد أكياس للغسل شهرياً»، وسيضاف إليهم ما لا يقل عن 700 حالة «خصوصاً أنّ 10% من جرحى الحروب يحتاجون إلى جلسات غسيل كلى، وهذا يعني الحاجة إلى 9 آلاف جلسة وكيس شهرياً». وإلى هذه الإشكالية، تُضاف أزمة النزوح من الجنوب إلى بيروت «حيث تبرز المشكلة المتعلّقة بتأمين مراكز في بيروت لمرضى الجنوب لمتابعة علاجاتهم». كل هذه الأمور وغيرها تأخذها النقابة في الاعتبار عبر إعداد دراسات تخمينية «لا علاقة لها فقط بالحرب، وإنما يمكن تطبيقها في أيّ حالة طارئة».