تسير وزارة الصحة بالنظام «بالمقلوب». بدلاً من أن تعمل على إعداد خطط جدية لتأمين أدوية السرطان للمرضى، تشغلهم بإجراءات نظام التتبّع الإلكتروني للأدوية «Meditrack» للحصول على موافقاتٍ تنتهي في الغالب إلى لا شيء، بسبب النقص الكبير في أدوية أمراض السرطان. أضف إلى ذلك أن مشكلة النظام لا تزال هي نفسها: التأخر في صدور الموافقات، إما بسبب النقص في الأوراق المطلوبة أو لأسبابٍ تتصل بإعادة النظر في بروتوكولات العلاج. والنتيجة: لا دواء للمرضى
لا يكاد نظام التتبع الإلكتروني «مديتراك» يسلك طريقه حتى يضلّها مجدداً، ليعود المرضى الذين فرض عليهم المرور عبره إلى نقطة الصفر. مئات المرضى اليوم من دون علاجات لعدم حصولهم على الأدوية «المدعومة»، فيما الحصول عليها من مصادر أخرى غير مقدور عليه بسبب أسعارها الباهظة، إذ يصل سعر بعضها إلى عشرة آلاف دولار كما هي حال دواء tagrisso لعلاج أنواع من سرطان الرئة.صحيح أن السبب الأساس في كل هذه الفوضى هو ضعف ميزانية استيراد أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، ما انعكس نقصاً في الكثير من أصناف الأدوية. إلا أن النظام ضالع هو الآخر في تأخر علاجات الكثيرين أو انقطاعهم عنها، بسبب التأخر في صدور الموافقات النهائية عن وزارة الصحة أو صدورها في الوقت بدل الضائع، أي عندما تكون كميات الأدوية المستوردة قد نفدت. سببان أدّيا إلى تدهور حالات مرضى كثيرين انقطعوا عن علاجاتهم، ووصل الأمر في بعض الحالات إلى الانقطاع ما يقرب من 50 يوماً، أي دورتين من العلاج الكيميائي، ما يعني عودة المرض إلى نشاطه المعتاد.
هذا ما حصل، مثلاً، مع ماريا التي بدأت معركتها مع السرطان عام 2021. لم تكن البداية مع السرطان صعبة، فرغم أن مرضها كان في مراحل متقدمة، إلا أنه كان يكفي أن تلتزم بالعلاج كي تكسب معركتها. غير أن ما لم يكن في الحسبان أن تتزامن إصابتها بالمرض مع انقطاع كثير من أدوية السرطان، ما جعل إمكانية القضاء عليه مستحيلةً، إذ «أصبحت تأخذ علاجها مرة كل خمسة أشهرٍ، علماً أنها يجب أن تأخذه مرتين شهرياً»، تقول شقيقتها مارسيل. استمرت الحال على ما هي عليه حتى أعلنت الوزارة بدء تطبيق نظام التتبع الإلكتروني للأدوية (Meditrack)، يومها «استبشرنا خيراً منه، علّه يوفّر الدواء». إلا أن ما حدث كان عكس التمنيات، ففي ظل التأخر في إتمام الموافقات والنقص في الأدوية، انتشر المرض في أماكن متفرقة من جسدها «في الرأس والرقبة والظهر»، تتابع مارسيل، وهي تدرك أن المرض سيكمل طريقه إلى أعضاء أخرى في جسد شقيقتها التي صارت بـ«وزن طفل»، فيما هي غير قادرة على تأمين الدواء من خارج حلقة الدعم بسبب غلاء سعره وعدم توافره للعموم.
اليوم، تكمل ماريا شهرها الرابع من دون دواء، فيما يراوح ملفها بين وزارة الصحة وشبكة أمان، ومعه تجوب مارسيل الطرقات في محاولة لتأمين الإبَر التي أوصى بها الطبيب. مشكلة ماريا في اللحظة الراهنة ليست مع السرطان بحد ذاته، وإنما مع النظام الذي يفرض تنظيم الدواء - غير المتوافر في معظمه - في أسوأ الظروف، حيث يضطر المرضى إلى القيام بسلسلة إجراءات من دون أن يحصلوا على علاجاتهم لأن الدواء مفقود. وهي حالة تكاد تكون عامة لدى معظم المرضى وعائلاتهم الذين ينتهون إلى «لا نتيجة». وهذا ما وصل إليه جان لوي، ابن أحد المصابين بسرطان البروستات، والذي استنفد كل الطرق للحصول على الدواء مدعوماً، فيما لا يزال والده منذ أربعين يوماً بلا علاج.
عندما أصيب والد جان لوي بالسرطان قبل عدّة أشهرٍ، باشر الأخير بالملف وفق تعليمات الطبيب، واستحصل على الموافقة وتأمين دورتين للعلاج. وعندما حان موعد الدورة الثالثة، كانت قد انتهت «صلاحية» الموافقة السابقة التي تخدم ثلاثة أشهرٍ فقط، «وكان علينا أن نجدّد الملف من خلال اتباع الإجراءات نفسها من فحوص الدم إلى ورقة الطبيب وغيرها قبل تحويلها». صحيح أن هذا الإجراء مطلوب للاطلاع على تطوّرات حال المريض، إلا أنه في ظل الأوضاع الراهنة بات إجراءً غير طبيعي لمعظم المرضى، إذ إن تجديد الملفات «يأخذ الكثير من الوقت وهو ما حصل معنا. فقد بدأنا بتجديد الملف في أيلول الماضي، ولكن لم تأت الموافقة بسبب ما قالوا إنه نقص في بعض الأوراق علماً أننا تقدمنا بكل ما هو مطلوب». ويشير الابن إلى أنه «حتى اليوم لا يزال والدي من دون علاج ولا نستطيع أن نؤمّن الدواء إلا عبر هذه الآلية لعدم قدرتنا على شرائه وخصوصاً أن سعر العلبة التي تكفي شهراً فقط يبلغ 3 آلاف يورو، إضافة إلى إبرة لم تعد متوافرة من خلال الدعم، إلا أننا نضطر إلى دفع ثمنها لأنه بحدود 360 دولاراً شهرياً».
ما عدا تلك الإبرة، لا يملك جان لوي ما يمكن أن يفعله. «أصابني العجز»، يقول وهو يعي تماماً أن هذا الشعور يصيب كثيرين ممن هم مثله بعدما وجدوا أنفسهم في قلب دوّامة تفرض عليهم السير بالنظام من دون طائل، فقد تأتي الموافقات أو لا تأتي. والأنكى من ذلك أن «معظم أدوية أمراض السرطان اليوم غير متوافرة إلا بنسبٍ ضئيلة»، وفق مصادر في وزارة الصحة. وحتى لو حصل جان لوي اليوم، مثلاً، على الموافقة للحصول على دواء (Erleada) «لن يكون بإمكانه الحصول على الدواء لأن الكمية التي وصلت انتهت ولا ندري متى تأتي كميات جديدة منه». الحال نفسها تنسحب على كثيرين، ولا سيما أن أعداد المرضى الذين يوافق على علاجاتهم لا تتناسب مع كميات الأدوية التي تصل. وهذا ما يدفع الأطباء إلى تغيير الأدوية. ومن مساوئ هذه الخيارات أن البدائل لا تحمل الفعالية نفسها للدواء الأساسي، أضف إلى ذلك أنها ستخضع للآلية نفسها لناحية تجديد الملف من أجل الحصول على الموافقة. وسيّئ الحظ مثلاً من يحصل على الموافقة ولا يجد البديل.
«البضاعة التي تؤخذ لا تسترد!
في الوقت الذي تفرض فيه وزارة الصحة على المرضى السير بالنظام، تتخلّف هي عنه. فمن المعلوم أن «وظيفة» النظام هنا هي تتبع حركة الأدوية لمعرفة ما إذا كانت قد وصلت إلى المرضى المستحقّين أو لا. وقد يحصل أحياناً أن لا يأخذ المريض الدواء إما بسبب تعديل الطبيب في العلاج أو لسببٍ يتّصل بموت المريض، وهذا يفترض بديهياً صرف الدواء لمريضٍ آخر. ولكن، وفق بيروقراطية النظام الحالي، قد يبقى الدواء «على الرف» ثلاثة أشهرٍ من دون أن يصدر قرار بصرفه، وهو ما حدث مع أحد الصيادلة الذي «يحتفظ» بدواءين لعلاج سرطان الثدي منذ التاسع والعشرين من أيلول الماضي. ويروي هذا الأخير أن «مريضين لم يستطيعا دفع ثمن علبتي الدواء المدعومتين، إذ كان عليهما دفع مبلغ 6 ملايين ونصف مليون للحصول عليهما، عندها اتصلت بوزارة الصحة العامة للتبليغ عن هذا الأمر تمهيداً لإعطاء الدواءين لمريضين آخرين». حاول الصيدلي مراراً مع الوزارة لصرف الدواءين لمريضين آخرين، إلا أن الجواب في كل مرة يأتيه بأن ينتظر ريثما يصله بريد إلكتروني بأسماء مرضى آخرين قد وصلت مواعيد علاجهم. والمفارقة هنا أن هذا الصيدلي يُسأل في كل يوم من مرضى مصابين بسرطان الثدي عن هذين الدواءين، فيما لا يملك سلطة القرار للإجابة. وبرغم سهولة الإجابة ــــ نعم أو لا ــــ إلا أن بيروقراطية النظام تحول دون ذلك «مش قادر قول لا وكون السبب في تأخر علاج المريض ولا قادر قول إي وأطلع أنا سارق الدوا». في كلتا الحالتين، القرار صعب. وحتى اللحظة الراهنة، لا يزال العلاج في الصيدلية «ولم تسحبه وزارة الصحة ولم تعطِ الموافقة كي يأخذه مريض آخر». من جهة أخرى، يشكو صيدلي آخر من انتهاء صلاحية دواء للسرطان، يدخل ضمن نظام التتبّع، بسبب وفاة المريض وعدم إعطائه لمريض آخر «حيث بقي خمسة أشهرٍ في الصيدلية من دون استرداده».