في ظلّ غيابها عن تصدّر المشهد الإعلامي، وضعف التفاعل الدولي معها، أضحت المجازر الكبرى روتيناً يومياً في مناطق قطاع غزة كافة. إذ يكاد لا يمرّ يوم واحد من أيام الحرب، من دون تسجيل استشهاد العشرات من المواطنين في عمليات قصف تطاول منازلهم المأهولة، في الشمال والجنوب على السواء، وحتى في المدن التي يوجّه جيش الاحتلال المواطنين بالنزوح إليها من مثل دير البلح ورفح. ووثّقت وزارة الصحة، أول من أمس مثلاً، استشهاد أكثر من 50 مواطناً، 17 منهم قضوا إثر غارات استهدفت منازل الآمنين وسط مدينة غزة، وثلاثون آخرون في محافظة شمال غزة بعدما سوّت الطائرات الحربية مربعاً سكنياً كاملاً في منطقة مشروع بيت لاهيا بالأرض، وعشرون آخرون في خانيونس جنوباً. هذا كلّه من دون احتساب ضحايا القذائف العشوائية في الشمال والجنوب على السواء.الثيمة التي يحتفظ بها العدو لنفسه في طريقة ارتكاب المجازر تشهد تطوّراً مستمراً؛ إذ تقصف الطائرات الحربية بقنابل تزن ما يزيد عن 1000 كيلوغرام منزلاً، بهدف قتل ناشط واحد في فصائل المقاومة يسكن المنزل، حتى لو تسبّب القصف بقتل كلّ من هم في البناية السكنية المزدحمة بالسكان والأقارب النازحين إليهم، وتدمير ما بين خمسة وعشرة منازل محيطة. هكذا، ببساطة، يُعاد ارتكاب المجازر نفسها، على رغم أن جيش الاحتلال هو ذاته الذي ظلّ يفتخر دائماً بامتلاكه طائرات «الأوربيتر» الانتحارية المسيّرة، التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، إذ تتحقّق من هوية الهدف عبر قراءة بصمة صوته ووجهه وهيئته، وتنقضّ عليه داخل غرفة نومه لتصطاده وحيداً بمنتهى الدقة وأقلّ قدر من الخسائر البشرية. هذا ما قاله، مثلاً، هرتسي هليفي، وهو قائد أركان جيش العدو، عقب انتهاء معركة «ثأر الأحرار» في أيار الماضي.
لا تُفزع جثامين الشهداء التي لا تجد من يدفنها على أرصفة الطرق أحداً
أمّا التطور المتنامي في السلوك الإجرامي، فهو استهداف مراكز الإيواء؛ إذ استُشهد العشرات من المواطنين، في اليومين الماضيين، في قصف طاول مدرسة عمواس التي تؤوي الآلاف من النازحين في منطقة الصفطاوي شمال غزة. وفي جنوب القطاع، وتحديداً في مدينة رفح حيث المنطقة التي يزعم الاحتلال أنها آمنة، قصف العدو خيام النازحين شرقي المدينة. هكذا، أصبح الحديث عن استشهاد وإصابة المئات من الأبرياء يومياً حدثاً معتاداً، لا بل إن مناطق كاملة يسكنها أكثر من 500 ألف نسمة في شمال وادي غزة، يُترك المصابون فيها للنزيف حتى الموت، فيما تتعفّن جروح من حظيوا بخدمة طبية، قبل أن تخرج المستشفيات كافة عن العمل. كما تلد النساء على الرصيف من دون أطباء ولا تعقيم، ويخرجْن من الهول إمّا بوفاة الجنين أو الأمّ أو كليهما.
كلّ شيء أضحى معتاداً. لا تُفزع جثامين الشهداء التي لا تجد من يدفنها على أرصفة الطرق أحداً، ولا تتصدّر أولوية أحد. يوم أمس، كنّا رفقة عدد من الزملاء، نجوب مدارس الإيواء الغارقة بالقمامة والوحل ومياه الصرف الصحي، لتسجيل الشهادات ورصد الآراء. اختصر لنا المشهد رجل مسنّ بالقول: «روحوا يا ولادي عند أهلكم، لا تفجعوهم فيكم، والله ما احنا على بال حد... إلكم 80 يوم بتنقلوا نفس الصورة، ما حدا اندهش ولا تفاجأ».