يواجه نازحو غزة، في هذه الأوقات، أوضاعاً مأساوية صعبة للغاية، بسبب تزايد أعدادهم، خلال الأيام الماضية، بعد طلب جيش الاحتلال من سكان مناطق كثيرة وسط قطاع غزة، وأخرى في جنوبه، ترك منازلهم بشكل فوري، تحت تهديد آلة الحرب.
ازدحام مناطق النزوح
ولم يعد هناك متسع في الأماكن التي طلب جيش الاحتلال النزوح إليها، خاصة أن هذه المناطق، وهي الأحياء الغربية لمدينة رفح، أقصى جنوب قطاع غزة، والواقعة على الحدود مع مصر، وكذلك مدينة دير البلح، كانت بالأصل تزدحم بالنازحين الذين فروا إليها منذ بداية الحرب، إما من مناطق غزة والشمال، وهم العدد الأكبر من النازحين، حيث طلب منهم إخلاء منازلهم بعد أسبوع من الحرب، أو من سكان يقطنون الكثير من أحياء مدينة خان يونس جنوب القطاع.
وخلال الأيام الماضية، وتحديداً بعد توسيع جيش الاحتلال عملياته البرية في مدينة خان يونس، وقيامه بتنفيذ هجوم بري جديد على مخيم البريج وسط القطاع، نزح عشرات آلاف المواطنين الجدد إلى خارج مناطق سكنهم، ومعهم أيضاً عشرات آلاف المواطنين الذين نزحوا من قبل من مناطق “شمال وادي غزة”، وبينهم مواطنون قالوا إن نزوحهم الجديد هو الثاني والثالث لهم، بعد أن أجبروا على التنقل تحت وطأة الصواريخ الإسرائيلية.
وأعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” أن أمر الإخلاء الذي أصدرته السلطات الإسرائيلية في وسط غزة “يتسبّب في تهجير قسري متواصل”.
وأكدت تمارا الرفاعي، المتحدثة باسم “الأونروا”، أن النزوح مستمر مع القصف الذي يجبر الناس على الاتجاه جنوباً، لافتة إلى أن مدينة رفح مهيأة لربع مليون شخص تقريباً، وقالت: “الآن البنى التحتية تستوعب أكثر من 1.25 مليون شخص، ما يمثل عبئاً عليها”.
ولم يعد في مدينة دير البلح، ولا في مدينة رفح، هنالك موطئ قدم للنازحين الجدد، بعد وصول عشرات الآلاف من النازحين الجدد إلى تلك الأماكن، هرباً من نيران الحرب، والتي لاحقتهم أيضاً في مناطق النزوح، التي تعمّد جيش الاحتلال، رغم طلبه من السكان التوجه إليها، شن عدة غارات جوية فيها، وهو أمر أكدته “الأونروا”، أكبر الجهات التي ترعى النازحين في غزة في “مراكز الإيواء”، حيث أكدت أنه لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة.
وفي مدينة دير البلح أقام نازحون جدد من مخيم البريج، وعدة أحياء مجاورة للمخيم، وأخرى ملاصقة له في مخيم النصيرات المجاور، خياماً بلاستيكية، وأخرى من قطع من الأقمشة والأغطية، لا تقي برد ولا مطر الشتاء، في الساحات العامة في المدينة، وفي الشوارع وأمام بعض المنازل.
مخيمات النازحين
وعمل آخرون على إقامة خيام لهم قرب مشفى شهداء الأقصى، التي امتلأت من قبل ساحاتها بخيام النازحين من عدة مناطق في القطاع.
وقال توماس وايت، مدير عمليات “الأونروا” في قطاع غزة، إن إصدار السلطات الإسرائيلية المزيد من أوامر الإخلاء للسكان في المنطقة الوسطى من غزة للانتقال إلى دير البلح لتوسيع العملية العسكرية المستمرة، أثّر على أكثر من 150 ألف شخص، لافتاً إلى أن المنطقة بالأصل مكتظة بالنازحين بما في ذلك ملاجئ “الأونروا”.
وتابع، منتقداً سياسات الاحتلال: “الناس في غزة ليسوا أحجار شطرنج، فقد تم تهجير العديد منهم عدة مرات، يأمر الجيش الإسرائيلي بالانتقال إلى المناطق التي تشهد غارات جوية مستمرة”، وأضاف: “لا يوجد مكان آمن، ولا يوجد مكان يذهبون إليه”.
وتكرر المشهد في مدينة رفح أيضاً، حيث مهدت هناك بلدية المدينة ساحة جديدة، لتمكين النازحين الجدد من وسط القطاع، ومن مناطق جديدة في جنوب القطاع هددها جيش الاحتلال بالنزوح، من الإقامة فيها، بعد امتلاء كافة “مراكز الإيواء” فوق طاقتها بأضعاف، وكذلك امتلاء الساحات الأخرى التي أقام فيها النازحون الجدد في أحياء المدينة.
وتشهد حالياً تلك المناطق تكدّساً بشرياً كبيراً في مناطق ضيقة، حيث يقدر عدد النازحين والمتواجدين في مدينة رفح من سكانها السابقين بأكثر من 1.2 مليون فلسطيني، ما يمثل نصف سكان قطاع غزة.
ويقول يوسف، وهو رجل في العقد الثالث، ويستعد للنزوح من وسط القطاع إلى مدينة رفح هو وزوجته وأسرته، وأسر أقارب له، إنه لم يكن يتوقع أن يصل به الحال إلى هذا الحد.
وقد استقل هذا الشاب، ومن معه من النازحين، كغيره من السكان، شاحنة أقلت أغراضهم الأساسية؛ من ملابس شتوية وأغطية وفرشات، وبعض مستلزمات السكن، وأطعمة معلبة ودقيق.
وهو قال لـ “القدس العربي” إنهم كانوا قد أرسلوا أحد أفراد الأسرة الشبان إلى هناك منذ يومين، وإنه وجدَ لهم مكاناً لإقامة خيمة، لكنهم جميعاً لا يملكون أي مقومات أو أغراض لإقامة هذه الخيمة، ورغم ذلك يقول إنه أجبر على النزوح خوفاً من الموت بالصواريخ الإسرائيلية.
ويشير إلى أنه في حال جرى توفير خيمة لهم، فلا يعرف كيف ستتسع العدد الكبير من أفراد أسرته وأقاربه، والتي تضم عدداً من النساء والرجال والأطفال، وقد اتخذ هذا الشاب قرار النزوح دون أن يكن لديه معرفة بما ستحمله الأيام القادمة، ورغم معرفته بأن الأوضاع في مناطق النزوح صعبة جداً، لكن “الخوف من الموت بالصواريخ”، كما قال، أجبرهم على هذا القرار الصعب.
مناشدات المساعدة
وبما يدلل على صعوبة الأوضاع المعيشية، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من المناشدات الإنسانية لنازحين جدد وصلوا إلى مدينة رفح، طلبوا مساعدتهم في توفير خيام تأوي أسرهم التي تضم نساء وأطفالاً.
وجاء في بعض المناشدات أن هناك أسراً تقيم في الشارع بلا سقف، وتواجه برد الشتاء بأجساد ضعيفة، وقد وضعت أرقام هواتف وعنوان تواجدها، لمن يستطيع المساعدة.
وبعد مرور أسبوع على تهديد جيش الاحتلال للعديد من سكان وسط القطاع بالنزوح، لا تزال هناك قوافل نازحين تتحرك صوب مدينتي دير البلح ورفح.
وقد قال المفوض العام لـ “الأونروا”، معلقاً: “مشاهد التهجير القسري مستمرة، وتتكرر الآن أيضًا في مناطق وسط غزة، حيث انقلبت الحياة رأساً على عقب بين عشية وضحاها”.
وأضاف: “يظل المدنيون يتنقلون باستمرار بحثًا عن مكان آمن، والأمل الوحيد المتبقي هو تحقيق وقف لإطلاق النار لأسباب إنسانية”.
ويعاني النازحون الجدد من توفير الخيام، ويقول مواطنون وصلوا إلى مدينة رفح جنوب القطاع، تواصلت معهم “القدس العربي”، إنهم اضطروا لشراء أدوات لإقامة خيمة صغيرة بمبلغ مالي كبير، حيث ارتفع ثمن الخشب والقطع البلاستيكية التي توضع كسقف وجدران للخيمة.
كما يشتكي النازحون من عدم توفر الخدمات الأساسية، في ظل شح إمدادات المياه في مناطق النزوح، ومن قلة الأطعمة، حيث لم تعد منظمات الإغاثة قادرة على توفير مستلزمات حياتهم الأساسية.
ويمكن مشاهدة الأمر في جميع أوقات اليوم، من خلال طوابير النازحين الذين يصطفون أمام الحمامات، وأمام مواقد النار لطهي الطعام والخبز.
وتقام الحمامات في مناطق مجاورة للخيام بطريقة بدائية جداً، ولا تكفي العدد الكبير من النازحين.
وفي ساحة عامة في مدينة دير البلح، أقام فيها النازحون خياماً لتؤوي أسرهم، قال أبو العبد، وهو في العقد الخامس، ترك منزله في مخيم البريج ونزح إلى هذا المكان: “الوضع صعب جداً، وهذه ليست حياة”.
وأضاف هذا الرجل الذي يعمل مدرساً: “هناك في البريج لي منزل محترم يؤوي كل أسرتي، والآن نقيم في هذه الخيمة، لا تكفي لإقامة نصف أفراد الأسرة”، ويوضح أن خيمته تؤوي أيضاً أسرة شقيقه التي غادرت هي الأخرى المخيم.
ويشير هذا الرجل إلى أن أطفال أسرته، والأسر التي تقطن في المكان، يبكون ليلاً من البرد ومن الجوع، يخشى هذا الرجل أن يطول أمر إقامتهم، ويشير إلى أن هناك أسراً نازحة من شمال قطاع غزة كانت تقيم بجوارهم في المخيم، وأخرى في “مراكز إيواء”، مضى أكثر من شهرين على نزوحها.
وفي ذلك المكان التقت “القدس العربي” العديد من الأسر التي نزحت في بداية الحرب من مدينة غزة ومناطق الشمال، إلى “مراكز إيواء” ومنازل أقارب وسط القطاع، واضطرت من جديد لتركها والنزوح إلى هذه المناطق الجديدة.
مخاطر تفشي الأمراض والمجاعة
وبسبب ضيق أماكن النزوح والازدحام الشديد، هناك مخاطر كبير من تفشي الأمراض ومن كوارث إنسانية وغذائية، وأكدت وزارة الصحة في غزة، أن النازحين يعانون أوضاعاً خطيرة ونصفهم من الأطفال، لافتة إلى أن نحو 2 مليون مواطن أصبحوا من النازحين داخل القطاع، وأكدت أن النازحين معرّضين لانتشار الأوبئة، ويعانون من سوء التغذية، وعدم توفر تطعيمات الأطفال.
وقد حذرت الأمم المتحدة من ارتفاع مستويات الجوع في قطاع غزة، بسبب الحرب الإسرائيلية، وأكدت منظمة الصحة العالمية أن قطاع غزّة يواجه خطر الجوع الحاد في جميع مناطقه، كما أكدت “الأونروا” أن غزة تعاني من جوع كارثي، وأن 40٪ من السكان معرضون الآن لخطر المجاعة.
ويقول مدير العمليات “الأونروا” في غزة متحدثاً عن الوضع الصعب: “كل يوم في غزة هو صراع من أجل البقاء، بحثاً عن الغذاء والماء”.
وأضاف: “الحقيقة هي أننا بحاجة إلى المزيد من المساعدات لسكان غزة، والأمل الوحيد المتبقي هو وقف إطلاق النار الإنساني”.
وقد أكدت، في وقت سابق، جولييت توما، مديرة الإعلام والتواصل لدى “الأونروا”، أن قرار مجلس الأمن الدولي، الداعي إلى زيادة دخول المساعدات لغزة، بدون هدنة قد لا يقدّم سوى القليل لقطاع غزة.
وكان مجلس الأمن اعتمد قراراً يدعو لاتخاذ خطوات عاجلة للسماح فوراً بإيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وتهيئة الظروف لوقف إطلاق النار.
وتسمح سلطات الاحتلال بدخول عشرات الشاحنات التي تقلّ مساعدات إنسانية لسكان قطاع غزة، وهي كميات لا تكفي حاجة السكان، وتؤكد الكثير من الجهات الرسمية والمؤسسات الإغاثية أنه من أجل المساهمة في الحد الأوضاع المتدهورة فإن ذلك يتطلب دخول ما لا يقل عن ألف شاحنة يومياً من المساعدات.
ولا تزال قوات الاحتلال توسع عملياتها العسكرية ضد قطاع غزة، وتواصل شن الغارات الدامية على كافة مناطق القطاع، موقعة يومياً مئات الضحايا والمصابين، وغالبيتهم من الأطفال والنساء.
ووفق الإحصائية الرسمية التي نشرها المكتب الإعلامي الحكومي، فقد ارتكب جيش الاحتلال، منذ بداية الحرب على غزة يوم السابع من شهر أكتوبر، 1779 مجزرة، حيث سقط أكثر من 21 ألف شهيد، منهم 8800 طفل، و6300 من النساء، علاوة عن إصابة أكثر من 54 ألف آخرين، كما خلفت دماراً هائلاً في المباني وفي البنية التحتية، علاوة عن الكارثة الإنسانية غير المسبوقة.