الآلاف من سكان غزة الذين فقدوا عائلاتهم بالكامل؛ بل إن بعضهم لم يبق لديه أحد على قيد الحياة ليروي الحكاية، وتُركت من دون نهاية يمكن كتابتها، الأمر الذي دمّر النسيج الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني.
لا ينسى الفلسطيني آدم أبو شعبان اللحظات المأساوية التي عاشها لحظة إبلاغه استشهاد 70 من أفراد أسرته في قصف إسرائيلي استهدف مربعهم السكني في أحد أحياء مدينة غزة، ودمّر جميع منازل العائلة والجيران.
أبو شعبان الذي لم يفق من الصدمة بعد، يؤكد أن شهداء القصف الإسرائيلي جميعهم أقاربه من الدرجتين الأولى والثانية؛ وبينهم والداه وأشقاؤه الخمسة وزوجاتهم وأبناؤهم، إضافة إلى شقيقاته الثلاث وأزواجهن وأبنائهن أيضًا.
ويعني ذلك مسح عائلات بأكملها من السجل المدني بفعل الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، والتي استهدفت المدنيين بالدرجة الأولى، في محاولة من الاحتلال الإسرائيلي الخروج بصورة المنتصر على المقاومة الفلسطينية.
لا ناجين لرواية القصة
وحال أبو شعبان كحال الآلاف من سكان غزة الذين فقدوا عائلاتهم بالكامل؛ بل إن بعضهم لم يبق لديه أحد على قيد الحياة ليروي الحكاية، وتُركت من دون نهاية يمكن كتابتها، الأمر الذي دمّر النسيج الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني.
وحسب الإحصاءات الفلسطينية، فإن "جيش" الاحتلال نفذ آلاف المجازر بحق أهالي غزة، وأباد عائلات بأكملها، فيما يصعب إصدار تقرير رسمي في هذا الشأن؛ بسبب عدم قدرة وزارة الصحة في غزة على توثيق ما يحدث في مختلف المناطق.
ويفيد أبو شعبان لـلميادين نت، بأن "عائلته تسكن في مربع سكني واحد، وجميعهم قرروا البقاء في غزة بعد محاولة الاحتلال الإسرائيلي طرد سكانها منها"، مبيّنًا أنه الوحيد الذي قرر النزوح إلى وسط القطاع قبل أيام من قصف منزلهم.
أبو شعبان، كان على تواصل دائم مع عائلته يومياً، للاطمئنان إلى سلامة الجميع لكن، بعد أيام، انقطع الاتصال، وبعد ساعات طويلة وثقيلة، وصله النبأ العظيم باستشهاد جميع أفراد أسرته، قائلاً: "أنا الناجي الوحيد الذي يروي الحكاية".
وأكد أفراد العائلة ومعظمهم من النساء والأطفال، تم استهدافهم من دون أي تحذير وبشكل وحشي للغاية".
جدة فلسطينية أصبحت أماً وأباً
ولا تختلف قصة الجدة نجاح النفار كثيراً عن القصص المؤلمة التي أفرزتها حرب الاحتلال على غزة، فهذه الستينية أصبحت أماً وأباً لستة من أحفادها، بعد استشهاد اثنين من أبنائها وزوجتيهما بقصف إسرائيلي لمخيم النصيرات وسط القطاع.
النفار تروي للميادين نت تفاصيل قصتها المؤلمة، والتي بدأت بقصف إسرائيلي دمر منزلاً من أربع طبقات على رؤوس ساكنيه في مخيم النصيرات وسط القطاع، ما أدى إلى كارثة كبرى في عائلتها وأفقد خمسة من الأطفال آباءهم وأمهاتهم.
وبعبارات مخنوقة، تقول النفار إن القصف أدى إلى استشهاد زوجها واثنين من أبنائها مع ثلاث من زوجات أبنائها، ما أذاق الأطفال الخمسة مرارة اليتم في سن مبكرة، وأجبرها على أن تكون أماً للمرة الثانية لجميعهم، وأباً لبعض منهم.
"القصف الإسرائيلي حوّل حياتنا إلى جحيم وأفقدني الكثير من أقربائي، وأصبحت أماً لستة من الأطفال أكبرهم سبع سنوات وأصغرهم لا يتجاوز الثلاثة أعوام، وأنا الآن مسؤولة عن كل تفاصيل حياتهم اليومية"، وفق النفار.
وتؤكد أن "ثلاثة من هؤلاء الأطفال تم إنقاذهم من تحت الأنقاض، ونجوا بأعجوبة من القصف على منزلهم بحي النصيرات، أما الثلاثة الآخرون فكانوا خارج المنزل لحظة قصفه"، مبينة أن من تبقى من أفراد العائلة مصاب بجروح متوسطة وخطيرة.
واستكملت: "كُتبت لهم الحياة ليذوقوا مرارة اليتم، ولكي أكون مسؤولة عن تفاصيل حياتهم؛ بدلاً من آبائهم وأمهاتهم الذين قتلوا في القصف الإسرائيلي"، مستطردة: "الأمر صعب للغاية وحياتنا انقلبت رأساً على عقب".
وبكلمات مثقلة، تقول النفار: "عدت من سيدة كبيرة أنهت مسؤولياتها في التربية والاعتناء بالأطفال لأكون أماً مرة أخرى، أنا متقبلة هذا الأمر لكنه حمل ثقيل جداً، وهؤلاء أحفادي ولن أتركهم مهما كانت الظروف صعبة".
يأتي ذلك فيما لا يزال عدد كبير من أبنائها تحت الأنقاض، ولم تتمكن طواقم الإنقاذ من الوصول إليهم بسبب نقص المعدات وبشاعة القصف الإسرائيلي، "فالمنزل تحوّل إلى مقبرة جماعية تؤوي أكثر من 40 من أبناء العائلة".
وحسب النفار، فإن الحياة في غزة لن تعود إلى ما كانت عليه في السابق، خاصة وأن مئات الآلاف من الأطفال أصبحوا أيتاماً والدمار الهائل في القطاع سيكون سبباً في حياة مؤلمة لجميع العائلات لفترة زمنية طويلة.
"أنا الناجي الوحيد"
ويروي المواطن الفلسطيني، شادي أبو حامدة، الناجي الوحيد من المجزرة الإسرائيلية التي استهدفت عائلته في مخيم المغازي وسط قطاع غزة، وأدت إلى استشهاد ثلاثين من عائلته بينهم والده وزوجته وطفلته، تفاصيل الحادثة المؤلمة.
ويفيد أبو حامدة، أنه "اضطر إلى النزوح من مخيم البريج إلى المغازي بعد إعلان الجيش الإسرائيلي البريج منطقة قتال خطيرة"، مؤكداً أنه فقد جميع أفراد عائلته في المنطقة التي يعدّها الجيش آمنة، ولم يلتزم بما أعلن عنه للإعلام الدولي.
وودّع أبو حامدة، شهداء عائلته الثلاثين من على سريره الطبي، ولم يتمكن من طبع قبلة الوداع على جبين أي منهم بسبب إصابته بكسر شديد بالعمود الفقري حال دون قدرته على الحركة أو المشاركة في وداع الشهداء.
ويؤكد، لـلميادين نت، أن "القصف الإسرائيلي أسقط منزلاً من ثلاث طبقات على رؤوس ساكنيه، إضافة إلى تدمير منازل أخرى بجواره"، قائلاً: "كنا عائلات كثيرة وقسمنا بعضنا في المنزل الذي لا يتسع لنصفنا".
واستدرك أبو حامدة: "لكن الطائرات الإسرائيلية أسقطته على رؤوسنا وقتلت الجميع، وأنا الناجي الوحيد، وكان في المنزل أطفال ونساء وكبار في السن وعدد قليل من الرجال، وقد تم استهدافه بشكل وحشي. طفلتي عمرها ستة أشهر لم أفرح بمولدها إلا وكانت الحرب الإسرائيلية قد بدأت على غزة، والآن أفقدها إلى الأبد".
وحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن القصف الإسرائيلي لمخيم المغازي الذي يسكن فيه أبو حامدة، تسبب بمسح سبع عائلات من السجل المدني الفلسطيني، وذلك بعد استشهاد أكثر من سبعين فلسطينياً بقصف الاحتلال.
تدمير بنية الأسرة الفلسطينية
ويحذر المختص النفسي والاجتماعي، أشرف زقوت، من خطورة الحرب الإسرائيلية على النسيج الاجتماعي والتفكك الأسري، مشيراً إلى أن الاحتلال يسعى إلى تدمير بنية الأسرة الفلسطينية وتفكيكها، سواء بالاستشهاد أو التشرد.
ويوضح زقوت، في حديث لـلميادين نت، أن الجهات المختصة في غزة رصدت تنامي المشكلات الصحية والنفسية الناتجة عن الضغوط التي تتعرض لها العائلات في غزة، مؤكداً أن مئات الآلاف من العائلات تفككت وأصابها الانهيار.
ويضيف: "الآلاف لا يعرفون شيئاً عن أبنائهم أو أخواتهم أو أقربائهم، والحرب الوحشية التي تخوضها "إسرائيل" ضد سكان غزة تسببت بعدم قدرة العائلات على التواصل مع بعضهم البعض"، مشدداً على أن حالة التشرد سيكون لها تأثير نفسي سلبي على المديين البعيد والمتوسط.
وتابع: "ثمة عائلات لا تستطيع التواصل مع بعضها البعض لفترات طويلة، وهناك من لا يعلم شيئاً عن أقاربه أو عائلته منذ بداية الحرب"، لافتاً إلى أن الحرب ستفرز آلاف المفقودين، وهو الأمر الذي تكرره "إسرائيل" في غزة كما فعلت في لبنان.