نجلاء السكافي\ صحيفة الأخبار
تخترق أشعّة الشمس نايلون خيمة نصبتها عايدة الشنطي (54 عاماً) على رمل أرض قاحلة في حيّ تل السلطان جنوبي مدينة رفح، حيث انتهت بها رحلة النزوح صحبةَ أولادها الستة، من حيّ النصر غربي مدينة غزة. السيدة التي استيقظت على نهيق الحمير بدلاً من زقزقة العصافير، لم تتخيّل للحظة مأساة العيش في الخيام، التي تكلّفت 2000 شيكل (نحو 500 دولار) لصناعة واحدة منها بمساحة 3.5x3.5 م2 من النايلون والخشب، وبجانبها حيّز صغير يُشبه «الحمام». لكن هذه الخيمة «لا تقيها وأولادها حرّ النهار ولا برد الليل»؛ تقول وهي تنفض بطانية خفيفة وضعتها على الأرض الرملية كسجادة. وتضيف لـ«الأخبار»: «كله كوم والرمل كوم تاني»، في إشارةٍ إلى ما يعانيه النازحون بسببه؛ إذ بالإضافة إلى عملية التنظيف المستمرّة، فإنَّ المنطقة الرملية تقطنها زواحف كالثعابين والحراذين والفئران وغيرها، ولا تختفي حتى في «أربعينية الشتاء» (شهرَي كانون الأول وكانون الثاني)، نظراً إلى تطرّف الطقس في مدينة رفح القريبة جغرافياً من صحراء سيناء.هكذا، تصبح الخيمة عبارة عن دفيئة زراعية نهاراً، لا يَحتمل الآدمي دخولها منذ شروق الشمس وحتى العصر، بينما يتحوّل الطقس ليلاً إلى بردٍ قارس يضطرّ النازحين لارتداء كل ما بحوزتهم من ملابس شتوية علّها تبعث فيهم الدفء. على أنه بالنسبة إلى عبير خالد التي تعيش في خيمةٍ مجاورة، فإنّ «الأكثر رعباً من وعكات البرد، هو الليالي العاصفة التي لا يهدأ لهم فيها جفن فيما تُحاول الرياح اقتلاع الخيمة».
تجربة الحمام
لدى سؤالنا مجموعة من النسوة حول تجربة «الحمام» التي تعيشها آلاف القاطنات في هذه الخيام، تجيب الشابة سناء جهاد (28 عاماً)، في حديث إلى «الأخبار»: «إنّها التجربة الأسوأ على الإطلاق». وتضيف: «أُضطرّ للامتناع عن الطعام والشراب لساعاتٍ طويلة قد تمتد لأيام، خوفاً من تكرار التجربة كثيراً»، علماً أن سناء نزحت من أبراج حمد في مدينة خانيونس إلى الحيّ السعودي في مدينة رفح، قبل نحو شهرٍ ونصف الشهر. وعلى الرغم من أنّ «الحمام» الخاص بالنازحين قد مرّ بمراحل تطوّر، غير أنَّ سناء لا تنسى كيف اضطررن لأيام عديدة لدخوله وهو مجرّد حفرةٍ سوّرها الرجال ببعض القماش والأخشاب.
أمّا دالية، شقيقة سناء، فتعتبر أن «الأكثر إهانةً لنا، خاصّة كنساء، هو اضطرارنا للاستحمام ونحن نرتدي ملابس الصلاة داخل الخيمة». والواقع أن الكثيرين منهنّ «سكبن الماء على رؤوسهن، بينما دموعهن لا تتوقّف حياءً ورعباً من أداء هذه المهمّة داخل خيمة بابها عبارة عن فتحة قماش، وتنعدم فيها أساسيات الخصوصية الإنسانية».
تصبح الخيمة عبارة عن دفيئة زراعية نهاراً، لا يَحتمل الآدمي دخولها منذ شروق الشمس وحتى العصر
ولادة في الخيمة
من خيمة قريبة من خيام هؤلاء النسوة، ينبعث صوت طفلٍ حديث الولادة، تقول والدته، سجى غازي، التي تعيش تجربة الأمومة للمرّة الأولى خلال العدوان، وداخل خيمة، إنّها عاشت أسوأ ظروف حياتها في مخاضها به، مضيفةً: «كنت مرعوبة من فكرة الولادة في الحرب وأنتظر انتهاءها كل يوم». وتتابع: «بدأت أشعر بالأعراض عند العاشرة ليلاً، فأخبرت زوجي بمغصٍ مفاجئ أسفل بطني، وازدادت الآلام شيئاً فشيئاً، فخرج محاولاً إيجاد أيّ وسيلة لنقلي إلى المستشفى. وبعد مرور أكثر من ساعة، وجدَ كارة يقلّها حمار، وفي غضون ساعات تذوّقت فيها أقسى الآلام، عدنا نحمل مجد إلى الخيمة». على أن الأيام الأولى التي عاشتها سجى وولداها، بما فيها من تلوّث للجو وحرارة في الطقس نهاراً وبرودة ليلاً، كانت أقسى بكثير من لحظة الولادة نفسها؛ إذ بقيت لنحو 20 يوماً لا تبرح الفراش، بينما زوجها يذهب من بزوغ الفجر وحتى ساعات المساء يبحث لهما عن علاجات في مستشفيات رفح وخانيونس ودير البلح.
الأنشطة اليومية
أما عن يومياتهن، فتفيد الكثير من النساء القاطنات في الخيام، بأنهنّ يعشن حرباً من نوعٍ آخر، عنوانها اختلاق أنماط جديدة للعيش، من عجنٍ وخبزٍ وغسلٍ للملابس والأواني، بعدما كان جُلّ همهنّ، لحظة الفرار من الموت، «مكان يؤويهن ويؤمنهن» فقط. تستقبل الثلاثينية هنادي جبر، مراسلة «الأخبار» في خيمتها، بينما تلوك العجين بكلتا يديها. تبدو منشغلة بإتمامه باكراً لتحظى بحجزٍ مُبكر لعملية الخبز لدى سيدة تملك فرناً من الطين، «تشترط أن نحضر الحطب وتأخذ شيكلاً واحداً مقابل خبز كل خمسة أرغفة»، كما تقول هنادي. ولذلك، يضطرّ زوجها، وهو مهندس كهربائي تعطّل عمله بسبب العدوان، للذهاب إلى جمع الحطب يوميّاً.
كيف غسلتِ للمرة الأولى هنا؟ نسألها؛ فتجيب ساخرة وهي تضع الملابس في جردلٍ كبير وترتدي قفازات علّها تحمي يدها المصابة بحساسيةٍ جلدية نتيجة ملوحة المياه الشديدة: «كلما أردت الغسيل بجانب الخيمة أو في هذا الشارع، أدعو كل أطفالي لإحاطتي من كل الجوانب، خجلاً من المارة».
يُذكر أن «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا)، تقدّر عدد النازحين في غزة، بمليون و900 ألف نسمة، أي ما نسبته 90% من مجموع سكان القطاع، علماً أن ما تقوم به إسرائيل من تهجير لهؤلاء، يخالف البروتوكول الأول الملحق باتفاقات جنيف الأربع، والذي أكد عدم جواز قيام دولة الاحتلال بنقل سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلّها، أو ترحيل أو نقل كلّ أو بعض سكان الأراضي المحتلّة داخل نطاق تلك الأراضي أو خارجها.