القدس العربي ـ عبد الحميد صيام ـ
الحكاية وما فيها أن 12 موظفًا تابعين لوكالة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (أونروا) متورطون في عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. التهمة موجهة من الكيان الصهيوني فقط، المفوض العام للأونروا فيليب لازرايني، أخذ التهم بشكل جاد فأوقف عمل تسعة موظفين فوراً وجمّد عقودهم. وتبين أن أحد الموظفين قتل وهناك موظفان مفقودان. تم تشكيل لجنة تحقيق أممية من مكتب مختص في مقر الأمم المتحدة، وبدأ التحقيق في التهم فوراً، ووعد لازاريني أن يكون التحقيق دقيقاً وشفافاً وسيعاقب كل من ثبتت عليه التهمة. وهنا لا بد من إثارة مسألة المواقف الأمريكية والأوروبية وتوابعهما، التي قررت تعليق مساعداتها للمنظمة الدولية نفسها دون التريث أو التثبت من التهم، ومن حقنا أن نثير القضايا التالية:
أولا- لماذا يتم إصدار رزمة عقوبات قاسية قبل ظهور نتائج التحقيق. قد يكون بعض المتهمين متورطاً، وقد يكون بريئا فلماذا استباق التحقيق؟ كيف يمكن لدول تحترم نفسها، وتدعي استقلال القضاء، وترفع شعار «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، أن تصدر العقوبات قبل التحقيق؟ من حق الوكالة أن توقف أي متهم بانتظار التحقيق، وأن تتخذ سلسلة إجراءات للتأكد من نزاهة التحقيق وتتعاون مع جميع المعنيين في لجنة التحقيق المستقلة، إلى أن تنتهي اللجنة من عملها وتصدر تقريرها النهائي بنتائج التحقيق. وماذا لو ثبت أن بعضهم أو كلهم أبرياء فماذا سيكون موقف هذه الدول؟
ثانيا- لنفترض أن الموظفين التسعة، وجدوا مذنبين ومتورطين في عملية 7 أكتوبر من بين 30 ألف موظف، من بينهم نحو 13 ألفا يعملون في غزة. هل هذا أمر عجيب أن تجد تسعة موظفين مذنبين؟ قد يكون هناك عدد أكبر من هذا يعملون جواسيس لإسرائيل. وهذا شيء غير مستبعد في ظروف غزة. إذن ستكون نسبة المذنبين بالنسبة لجميع موظفي الوكالة لا تتجاوز 0.03 في المئة و 0.07 في المئة من نسبة موظفي الوكالة في غزة. فهل هذه النسبة تستحق معاقبة جميع موظفي الوكالة ومعاقبة 5.5 مليون لاجئ فلسطيني، يتلقون المساعدات من الوكالة في ميادين التعليم والصحة وخدمات الطوارئ والإسكان والتدريب؟ ثم ما ذنب الذين يتلقون المساعدات في غزة الآن، حيث تصل نسبة اللاجئين إلى 70 في المئة من مجموع السكان. والعقاب في النهاية سيطال المستفيدين من خدمات الوكالة وليس الموظفين فحسب. وكما قال فيليب لازاريني المفوض العام للأونروا، «إنه لأمر صادم أن تتم معاقبة الوكالة كرد فعل على ادعاءات ضد مجموعة صغيرة من الموظفين، خاصة بالنظر إلى الإجراء الفوري الذي اتخذته الوكالة بإنهاء عقودهم وطلب إجراء تحقيق مستقل وشفاف».
ثالثا- لقد بذل موظفو الوكالة في غزة منذ بدء حرب الإبادة، جهوداً جبارة في ظل ظروف عصيبة وخطيرة. وفقدت الوكالة لغاية انتشار خبر تورط الموظفين التسعة الجمعة الماضي 152 موظفا دفعوا أرواحهم من أجل إيصال المساعدات الإنسانية الشحيحة، التي تصل عبر معبر رفح شبه المغلق، وبدلا من تقديم أوسمة الشجاعة والإقدام والتضحية والعمل الإنساني والتفاني، تتم شيطنة الوكالة التي تعمل الآن في ظروف صعبة وخطيرة في غزة، هل هذه الشيطنة في هذا الوقت صدفة؟
رابعا – فيليب لازاريني مدير عام الوكالة، وحده من بين جميع رؤساء الوكالات الدولية العاملة في المجال الإنساني، الذي زار غزة أربع مرات واطلع على معاناة أهلها، هو الذي وصف أوضاعها بدقة وصدق. واقتباسه الذي تلته رئيسة محكمة العدل الدولية حول الأوضاع الكارثية في القطاع، كان له بالغ الأثر في نقل الصورة الحقيقية لما يجري في القطاع. قال: «لم يعرف أهل غزة الجوع من قبل، لكننا نقابل المزيد من الأشخاص الذين لم يأكلوا منذ يوم أو يومين أو ثلاثة أيام. يُضطر بعضهم لإيقاف شاحنات المساعدات وأخذ الطعام (قبل إيصاله إلى الملاجئ) ليأكلوا في الحال. لا علاقة لذلك بتحويل المساعدات عن مسارها، لكنه متعلق باليأس التام». وقال أيضا: «محظوظون هم أولئك الذين يجدون مكانا داخل منشآتنا خاصة مع بدء فصل الشتاء. أما من هم في الخارج فهم يعيشون في العراء، في الوحل وتحت المطر». وقال السيد لازاريني «إن الناس في غزة يعتقدون أن حياتهم ليست مساوية لحياة الآخرين، وأن حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني لا ينطبقان عليهم». هل هذه الإجراءات عقاب للسيد لازاريني وما يمثله من مصداقية وشجاعة وإنسانية؟
خامسا: توقيت هذه القرارات مشبوه من ألفه إلى يائه. فقد تزامن مع صدور قرارات محكمة العدل الدولية، التي طالبت فيه بوقف الإجراءات التي تؤدي إلى الإبادة الجماعية، أي أن الكيان أدين بشكل واضح بارتكاب مجازر تصنف على أنها إبادة جماعية، والإدانة تنسحب على الدول التي وقفت مع الكيان وأيدته وحمته من المساءلة وقدمت له السلاح والأموال والمعلومات الاستخباراتية وحركت جيوشها وأساطليها لتأمين الكيان، واستخدمت الفيتو أو التصويت السلبي لتأمينه من المساءلة، وهي الدول نفسها التي أوقفت تمويل الوكالة. إذن الإدانة بارتكاب حرب الإبادة تنسحب على تلك الدول، كما ينص البند الثالث (النقطة هـ) من الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وبالتالي شعرت هذه الدول بأنها أدينت بسبب مواقفها من دعم حرب الإبادة، فبحثت عن مخرج للتملص من المساءلة وتغيير الرأي العام الذي انبهر بمرافعات المحامين من جنوب افريقيا وهشاشة المرافعات الإسرائيلية، إذن لا بد من خلق زوبعة جديدة تحرف الأنظار، وبدل دعم القرارات والعمل على مضاعفة المعونات الإنسانية تقوم هذه الدول بمعاقبة الضحايا بشكل جماعي وبطريقة متناسقة وكأن قرار شيطنة الوكالة معدّ سلفاً. إذن هذه الحملة الشعواء تهدف أساساً إلى إضعاف الوكالة نفسها تمهيدا لتدميرها، لا لإدانة حفنة من الأفراد قد تجدهم في أي مؤسسة تعد بالآلاف، هذا إذا ثبتت التهم عليهم، وهو أمر يثير الشك في هذا التوقيت بالذات والوكالة تتعرض لأكبر تحد مرّ عليها في تاريخها وأكبر عدد من الضحايا في تاريخ الأمم المتحدة كلها.
محاولات الكيان الصهيوني وأذنابه تدمير الوكالة ليس جديداً. ما زلنا نذكر قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في آب/ أغسطس 2018 وقف المساعدات الأمريكية كافة المخصصة للوكالة والتي تصل إلى 300 مليون دولار. لقد توقع أعداء الشعب الفلسطيني أن الوكالة ستتهاوى أمام هذه الضربة الموجعة، لكن المفوض العام للوكالة، آنذاك بيير كرينبول، شمّر عن ساعديه وشحذ همم موظفيه وأطلق حملة شعبية لجمع التبرعات تحت عنوان «الكرامة لا تقدر بثمن» واتخذ عديداً من الإجراءات التقشفية التي لا تطال اللاجئ في رزقه ومدرسته وعيادته، وعقد عدة مؤتمرات لجمع التبرعات في نيويورك وعمان وروما وبروكسل، وطاف الشرق والغرب من طوكيو إلى نيويورك ومن روما إلى أبو ظبي ومن الدوحة إلى الرياض ومن عمان إلى زيوريخ، حتى استطاع أن يتجاوز الأزمة بأقل الخسائر، ودون أن يزيد من معاناة الناطرين العودة إلى وطنهم الذين اقتلعوا منه بغير وجه حق. التعاطف مع الوكالة ازداد، والدعم العربي للوكالة تحول إلى قرار جامعة عربية لتقديم المزيد لسد العجز، والنتيجة أن جهود تفكيك الأونروا وحلها وإلغاء حق العودة التي أطلقتها إدارة ترامب المتصهينة فشلت. وأنا واثق من أنها ستفشل هذه المرة وستنكشف اللعبة الإسرائيلية التي ما فتئت تدعو إلى تفكيك الوكالة لأنها الشاهد الحي على نكبة 1948.
لقد لعبت الوكالة تاريخيا، دوراً أساسياً في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني وعدم رضوخه للإملاءات الإسرائيلية والأمريكية. والحرب على الوكالة الآن هو جزء من حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، والدعوة لتفكيك الوكالة هي جزء من الدعوة لاستسلام الشعب الفلسطيني، وإلغاء حقه في العودة وتقرير المصير والحرية والاستقلال. حلم صهيوني لن يتحقق، ومن يشكك في ذلك فليراجع أسطورة صمود غزة.