العربي الجديد ـ أمجد ياغي
يتزامن نفاد الوسائل المتاحة لمواجهة البرد في قطاع غزة مع فقدان الغالبية لمنازلهم، والبقاء في خيام بسيطة في مناطق النزوح، وتواصل العدوان الإسرائيلي للشهر الخامس على التوالي، مع فرض حصار خانق على القطاع، ودخول كميات محدودة من المساعدات.
ووثقت ثلاث وفيات على الأقل نتيجة تداعيات البرد القارس في قطاع غزة بسبب الحصار والعدوان المستمرين للاحتلال، لكن مصادر طبية تؤكد أن هناك العديد من الوفيات بسبب البرد بين النازحين خلال الشهرين الماضيين، وأن البرد كان من بين العوامل الأساسية لوفاة الكثير من المرضى إلى جانب غياب وسائل العلاج كما حدث مع الستينية النازحة فاطمة شحادة زقوت، التي توفيت مساء 5 فبراير/ شباط الجاري، في مدينة دير البلح بسبب البرد الشديد ونقص العلاج.
يقول أحمد زقوت، ابن شقيق الراحلة، لـ"العربي الجديد"، إن المسنة الراحلة كانت من أصحاب الأمراض المزمنة، ولم يتوافر لها العلاج على مدار الأسبوعين الأخيرين، كذلك كانت تعاني من سوء التغذية، وخلال أيامها الأخيرة، ونتيجة المنخفض الجوي البارد، كانت تعاني من البرد الشديد، وكانت العائلة عاجزة عن توفير أي أغطية أو فرش، فكانت تتحدث بصعوبة، وترتجف طوال الوقت، حتى فارقت الحياة.
لجأ عشرات النازحين إلى مدرسة "بشير الريس" في شارع الوحدة بحيّ الرمال في وسط مدينة غزة، رغم أنها مدرسة حكومية، وليست تابعة لوكالة "أونروا"، بينما يفضل الغزيون اللجوء إلى مدارس الوكالة التي تحمل علم الأمم المتحدة في المنطقة المحاصرة المنقطعة عن المناطق الجنوبية، والبرد حاضر داخل المدرسة، فمعظم النوافذ محطمة والأبواب مخلعة نتيجة القصف، ما يعرّض النازحين وأطفالهم للبرد القارس.
كانت عائلة الأشقر من بين النازحين إلى المدرسة، وقررت العائلة عدم النزوح إلى جنوب قطاع غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي بسبب خطورة رحلة النزوح على صحة زوجة ابنهم التي كانت في أشهر الحمل الأخيرة، وكانت تعاني من آلام شديدة في البطن قبل الولادة، ويتخوفون من أن يحدث لها مكروه خلال رحلة النزوح، أو يؤثر ذلك بالجنين في بطنها.
ولدت ميرا الأشقر في منتصف ديسمبر/ كانون الأول تحت القصف داخل مجمع الشفاء الطبي الذي كان حينها يعمل بطاقة محدودة، وجرت عملية الولادة بمساعدة نساء نازحات وعدد من طواقم التمريض، لكنها توفيت يوم 17 يناير/ كانون الثاني الماضي، بسبب البرد.
يقول عمّها أحمد الأشقر إنه كان يرافق والدها الذي أسرع بنقلها إلى مجمع الشفاء الطبي بعد أن أبلغته أمها أنها غائبة عن الوعي، وأن وجهها كان بارداً. يروي: "حين وصلنا إلى المستشفى جرى فحصها ليتبين أنها توفيت بسبب توقف القلب، وقال الأطباء إن ذلك حدث نتيجة البرد، ما خلف حزناً كبيراً لدى أفراد العائلة وحتى بين الطواقم الطبية الذين تجمعوا لمشاهدة الطفلة الجميلة التي فارقت الحياة".
تؤكد مصادر طبية وقوع العديد من الوفيات بسبب البرد بين النازحين في غزة
يضيف الأشقر لـ"العربي الجديد": "كانت والدتها ترضعها في الصباح، وكانت تلاحظ عليها الارتجاف خلال اليومين الأخيرين، حتى إنها كانت تحتضنها طوال الوقت لمحاولة منحها بعض الدفء، حتى لو كانت هي نفسها ترتجف من شدة البرد. وكان شقيقي يحاول توفير أي طعام لزوجته كي تتمكن من مواصلة إرضاع ميرا، لكن البرد قتلها. البرد شديد، والأغطية المتاحة خفيفة ولا تمنح الدفء، والمنطقة التي نعيش فيها لا تدخل إليها المساعدات. نحاول جمع أغطية من تحت ركام المنازل، ونسعى بكل الطرق للحصول على الأغطية لتدفئة كبار السن والأطفال بشكل أساسي. عمري 26 سنة، وأرتجف من البرد ليلاً، وأحاول مواصلة الحركة حتى أتناسى البرد، فما بالك برضيعة ضعيفة. هناك وفيات عدة بسبب البرد في شمال القطاع".
ويؤكد مكتب وكالة الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية "أوتشا"، أن النقص في المساعدات يشمل مليوناً و200 ألف بطانية وفراش، وما لا يقل عن 50 ألف خيمة عائلية معدة لفصل الشتاء، و200 ألف قطعة ملابس شتوية، بالإضافة إلى الأغطية البلاستيكية لخيام النازحين، في ظل عدم وجود وسائل تدفئة ملائمة.
داخل مدرسة حليمة السعدية في شمال قطاع غزة، توفيت علياء سُهاد (63 سنة) في الثالث من فبراير الماضي، وبعد فحص جثمانها من الطواقم الطبية في مركز جباليا الطبي الذي يوجد فيه عدد قليل من الممرضين، تبين أن البرد ساهم في وفاتها.
يقول ابنها عمر (38 سنة) إنه كان عاجزاً عن توفير الأغطية لها، أو حتى جلب أغطية من وسط ركام المنازل المدمرة، ويضيف لـ"العربي الجديد": "بعد انسحاب الاحتلال من بعض المناطق في شمال القطاع، حاولت البحث عن مكان يبيع الأغطية، أو الحصول عليها عبر المساعدات، فلم أتمكن من ذلك، وبحثت بين ركام المنازل المدمرة عن أغطية، لكنها كانت محترقة أو ممزقة بسبب شدة القصف، وفي أحد الأيام خلعت المعطف الذي كنت أرتديه وألبسته لوالدتي حتى تحصل على بعض الدفء".
لا يمكن توثيق أرقام وفيات البرد نتيجة الأوضاع السائدة في قطاع غزة
يتابع: "منزلنا دمره القصف في نهاية ديسمبر/ كانون الأول، وجميعنا لا نستطيع الأكل جيداً، والبرد والجوع منتشران في كل مكان، ويعاني منهما الجميع. كانت والدتي تعاني من مرض القلب، وفي الأيام الأخيرة كانت ترتجف كثيراً، ولا تستطيع الحراك، وكنت أحضنها بقوة حتى تتوقف عن الارتجاف، لكن في الفترة الأخيرة كان البرد شديد جداً، فلم تصمد أمامه، وهناك أشخاص كثر ماتوا بسبب البرد في شمال قطاع غزة ولا يعرف الإعلام أو الطواقم الطبية عنهم شيئاً".
وانخفضت درجات الحرارة كثيراً في أنحاء قطاع غزة خلال الشهرين الماضيين، خصوصاً في مناطق لجوء النازحين، مثل مراكز الايواء والمدارس، ومناطق الخلاء التي تحولت إلى مناطق خيام، حتى وصلت إلى شاطئ البحر، وكلها تتعرض للرياح الشديدة.
وتشير المعطيات الميدانية إلى وجود العديد من الوفيات بين النازحين بسبب البرد، لكن لا يجري توثيق الأرقام أو الحالات نتيجة عدم استطاعة غالبية النازحين الوصول إلى المرافق الطبية، أو تدمير تلك المرافق في عدد من المناطق، وكذلك ضعف التواصل وتوقف شبكات الاتصال عن العمل في كثير من الأيام.
ويعتمد الغزيون على وسائل محدودة للتدفئة، من بينها البطانيات التي قدمت ضمن المساعدات لمواجهة البرد، وبعضها بطانيات رديئة، كذلك إن الكميات التي دخلت إلى القطاع لا تكفي حاجة عشرات آلاف النازحين، في حين يحاول الآباء أو الأجداد منح الأطفال قسطاً في الدفء عبر احتضانهم في ساعات المساء.
داخل إحدى الخيام على الحدود الفلسطينية المصرية، تحتضن نعيمة السماك (67 سنة) أحفادها الصغار للحصول على الدفء، وتحرص على جعلهم يتلاصقون في أثناء نومهم لتدفئة بعضهم، رغم أنها تعلم أن ذلك قد يكون سبباً في انتقال الأمراض التنفسية والمعدية بينهم، إن أصيب أحدهم بأي مرض. تقول الجدة الفلسطينية لـ"العربي الجديد": "نعيش داخل مدرسة تحولت إلى مركز للإيواء، وحين يفتح باب الغرفة الصفية تدخل الرياح الباردة التي تجعلنا نشعر بالتجمد. لم يعد هناك أي حطب في الشوارع، وخلال الفترة الماضية، اقتلع الناس الأشجار، وهم يواصلون البحث عن الخشب حتى يحصلوا على قدر من الدفء، وحالياً لا توجد أي مقومات للتدفئة، والبرد ينخر عظامنا".