الأخبار ـ لمى غوشة ـ
تحوّلت مدينة القدس المحتلة، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، إلى سجن كبير مُحاط بمراقبة دائمة، إلى حدّ أن أهالي المدينة باتوا يتحدثون بالإشارات، خوفاً من التعرّض للقتل والاعتقال، واللذان تضاعفت معدلاتهما بصورة غير مسبوقة، في ظلّ حالة الهوس الأمني التي تعيشها الحكومة الإسرائيلية، والتي تتجلّى في الشوارع وأماكن العمل ومقاعد الدراسة، ومجالات عديدة أخرى.
بسؤال: «كيف تبدّلت حياتك منذ طوفان الأقصى؟»، توجّهت «الأخبار» إلى مجموعة من المقدسيين، لتأتي الإجابات محمَّلة بأبعاد سوسيولوجية ونفسية عديدة. أحد هؤلاء، وهو شاب عشريني، قال: «صرنا نخاف نمشي بالشوارع من الاعتداء الهمجي والاعتقال غير المبرر»، فيما الثاني، وهو أب ثلاثيني لطفلين، أجاب بأنه «لم تبق لنا حياة، فقدنا التواصل مع أبنائنا، وأنا بشكل شخصي بتّ أتفادى التواصل مع طفلَي لأنني أرى كل أطفال غزة في وجهيهما».
أمّا إحدى المقدسيات فتحدثت عن «قلق من الحاضر والمستقبل»، مشيرةً إلى أن ثمّة «خوفاً قد زرعوه في دواخلنا لم يكن موجوداً من قبل. فأنا كنت أعمل في مبادرة ما، وقررت التوقّف»، في حين وصفت أخرى الحياة في المدينة بأنها عبارة عن «خوف ورعب»، قائلةً: «فش أمان، عنصرية أكثر وغصة بالقلب طوال الوقت». وفي الاتجاه نفسه، قالت ثالثة: «بتُّ أكره سماع أحدهم يتحدث باللغة العبرية، ولم تعد لديّ القابلية لأتعلم اللغة وأمارسها. أحاول مقاطعة كل شيء يتعلق بهم، فقد كنت أعمل، وتركت مكان العمل لأن ثمة احتمالية لأن أُقابل إسرائيليين هناك... لا توجد لديّ طاقة للتعامل معهم».هكذا، يعيش المقدسي في حالة من القلق والقهر الدائمَين، الهادفَين إلى إفقاده قيمته الإنسانية، طبقاً لتحليل عالم النفس اللبناني، مصطفى حجازي، للعلاقة بين القهر والسلطة، في كتابه «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور». بحسب حجازي، فإن علاقة القمع تحتاج، لكي تستمر، إلى ما يُغذِّي نرجسية السيد، حتى تتلاشى احتمالية التكافؤ بينه وبين مَن يقهره، فيتفاقم العنف والتعسّف، وتزداد نظرة المتسلّط إلى المستضعَف دونية واحتقاراً، وهو ما يتّسق مع توصيف فرانتز فانون لـ«العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر»، وكيف أن الأول يُكرِّس هذه النرجسية من طريق خلق عالم ثنائي يُمثِّل فيه الثاني النموذج الأدنى من البشر. فالمستعمِر لا يكتفي بأن يحدّ من مجال المستعمَر ويحاصره، وإنما يجعل منه روح الشر وخلاصته، ويعدّ مجتمعه خالياً من الأخلاق، الأمر الذي ينطبق تماماً على النظرة الصهيونية إلى العرب، والفلسطينيين بصفة خاصة. فهذا هو ثيودور هرتزل ينعت، في كتاباته، العرب بألفاظ دونية، ويرى أنه يجب عليهم القيام بالوظائف الهامشية البسيطة، فيما اليوم يجري العمل على تحويل أحياء الفلسطينيين إلى «مستودعات قمامة للمستوطنات»، وفقاً لما كان دعا إليه إيال وايزمان.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بدأت تَخرج دعوات إلى طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية والقدس المحتلتَين. ومن ضمنها ما جاء على لسان نائب رئيس بلدية الاحتلال في القدس، آرييه كينج، الذي كتب، في منشور على «فايسبوك»، أنه «يجب أن ندرك أن عرب القدس مثل عرب غزة، مكوّنون من إسلاميين متطرفين، وأقلية مسيحية، وغالبية صامتة تدعم الإرهاب بهدوء، وأقلية مسلمة تعارضه. يجب طرد هؤلاء الإرهابيين الملعونين وعائلاتهم من إسرائيل، ليعلم الجميع أنه لا حياة لمن أراد قتلنا». كما دعا إلى دفن الأسرى الغزّيين أحياء، واصفاً إياهم بـ«النازيين» وأنهم «دون البشر»، قائلاً: «لو أتيح لي اتخاذ القرار، لجلبت 4 جرافات ضخمة وأمرت بتغطية كل هذه المئات من النمل (بالتراب)، وهم لا يزالون على قيد الحياة». على أن تلك الدعوات لم تبقَ كلامية فقط، بل رافقتها إجراءات تعسفية اتّخذتها البلدية بحق المقدسيين، معطّلةً حياتهم اليومية، وجاعلةً إياها محفوفة بالمخاطر الدائمة، بهدف دفعهم إلى «الهجرة الطوعية».
وفي هذا الإطار، تقوم طواقم الضريبة التابعة للبلدية بتنفيذ حملات تفتيش يومية لمحلات البلدة القديمة في القدس، إذ تُغرّم كل تاجر يبيع مقتنيات بألوان العلم الفلسطيني، أو تمتّ بأيّ صلة إلى رموز القضية الفلسطينية، ومن ثم تقوم بمصادرتها كإجراء عقابي وآلية ردع لعموم المقدسيين. ويقول أحد التجار المقدسيين، لـ«الأخبار»، إنه «إذا باع أحدنا بقيمة 200 شيكل في يوم ما، قد يُغرّم بنحو 1500 شيكل لسبب كيدي تختاره طواقم الضريبة». كذلك، فصلت بلدية الاحتلال أسيراً مقدسياً مُحرراً، من عمله، بسبب خطبة جمعة ألقاها عام 2017 وصفتها بالتحريضية. وفي حادثة أُخرى، طردت مقدسيين من عملهم كمقاولين زراعيين، بعد رفضهم زراعة أشجار على شكل علم الاحتلال في مستوطنة «بيت هكيرم» غربي القدس المحتلة. وقال أحد إداريّي بلدية الاحتلال إنه «في زمن الحرب لا يوجد مكان للتعبير عن أي موقف سياسي».
وعلى خطّ موازٍ، استمرّ التغول الاستيطاني على قدم وساق؛ ففي كانون الثاني 2024، أعلنت بلدية الاحتلال في القدس، الموافقة على المخطط الاستيطاني المُسمى «وادي السيليكون»، والهادف إلى تدمير المنطقة الصناعية في حي وادي الجوز. كما صادقت البلدية على إنشاء مكب نفايات شمال شرق المدينة. وفي هذا الإطار، أوضح المحامي مهند جبارة، مقدم الالتماس ضد المشروع باسم المواطنين المقدسيين المتضررين، أن «مخطط وادي السيليكون يُعتبر كارثياً للمقدسيين، ويمسّ بشكل مباشر بأصحاب المشاغل في المنطقة الصناعية وبحقوق ملكيتهم، بالاستيلاء على محالهم». وأضاف أن «بلدية الاحتلال في القدس تتحدث عن بناء حي جديد في المدينة، متناسية وجود حي مقدسي عربي أصيل في المكان. كما أن تصنيف هذا المخطط لمباني هاي-تك، يحد من المشاريع السكنية في الأرض الفلسطينية، فالمقدسيون يُسمح لهم بالبناء على 10% فقط من مساحة أراضيهم».
أمّا حرب هدم المنازل، فقد ارتفعت وتيرتها في زمن الحرب؛ إذ تبيّن، من تقرير نشرته صحيفة «هآرتس»، أخيراً، أن بلدية الاحتلال في المدينة سرّعت من عمليات الهدم، وأنه «في عام 2023، دُمّر 140 منزلاً في أحياء مدينة القدس، أي ما نسبته أكثر من 60% قياساً بالعام الماضي. وعليه، فإن سياسة هدم المنازل والمنشآت التي تُنفذها البلدية في القدس حالياً، غير عادية مقارنة بالحروب السابقة على غزة».
وكان تقرير محافظة القدس السنوي أظهر أنه بلغ عدد عمليات الهدم في المحافظة 316، 79 منها عملية هدم ذاتي قسري، إضافة إلى 40 عملية تجريف. كما سلّمت سلطات الاحتلال المقدسيين، في العام ذاته، 263 إخطاراً بالهدم.