آمال خليل - جريدة الأخبار
يحاصر العدوان الإسرائيلي قرى العرقوب ووادي التيم وحوض الحاصباني باستهداف محيطها وسهولها وأحراجها. ولأن «الرزق يعادل الروح»، يخاطر أهلها بحياتهم ليزرعوا أرضهم ويرعوا مواشيهم.قبل ظهر أمس، انضمّت بقرات ثلاث يملكها جمال الأحمد إلى عشرات رؤوس الماشية التي أرداها رصاص جنود العدو المتمركزين في موقع الغجر المحتلة عندما كانت ترعى في محيط بلدة الوزاني. قبل يوم واحد، نجا ثلاثة أطفال، أكبرهم في الثانية عشرة من عمره، من إطلاق نار، فيما كانوا يرعون قطيعهم، وأصيبت عشرات من رؤوس الأغنام والماعز. هذا المشهد يكاد يكون يومياً في البلدة الحدودية التي يعتاش أهلها على الزراعة وتربية المواشي، والواقعة عند مثلث لبناني - سوري - فلسطيني، والتي رفض أهلها النزوح رغم استشهاد راعيين من أبنائها، هما أمجد المحمد وربيع الأحمد، مطلع تشرين الثاني الماضي.
الوصول إلى الوزاني محفوف بالخطر. الطريق إليها من سهل الخيام مروراً بتلة الحمامص مقطوع بسبب القصف المدفعي والغارات المتكررة، وكذلك الطريق المؤدي إليها من سردا. قليلون من لا يزالون يقتربون من أطراف البلدة المشرفة على العباسية. الطريق الأقل خطراً إليها هو عبر عين عرب بمحاذاة الغجر.
تجلس عجوز أمام منزلها تحت شمس ربيعية. بعض جيرانها نزحوا من الحي إثر استشهاد جارَيها المحمد والأحمد. ترفض جارتها الحديث وتطلب عدم التصوير لأن «بيتي مقابل للغجر. إذا رأونا نصوّرهم (جنود العدو) سيطلقون النار».
في حي آخر، يتحلق عدد من رجال البلدة حول رئيس البلدية أحمد المحمد. يتجنب الحديث أمام الكاميرا «كي لا نستفزّ العدو، فيقوم بقصفنا. الله وحده يعلم كيف نعيش أيامنا». ويلفت إلى أن الخسائر الزراعية التي تكبدها مزارعو الوزاني والمستثمرون والتجار في أراضيها «كبيرة جداً. ضمنّا الصيف الماضي قطعة أرض لقاء 100 دولار للمتر الواحد. دفعنا البدل من دون أن نتمكن من زراعتها لأنها تقع في الأطراف المستهدفة».
يشير وليد المحمد، شقيق «الريّس»، إلى أنه «في بداية العدوان، نزح بعض الأهالي، لكنهم عادوا لارتباطهم بالرزق من الزراعة وتربية المواشي ولعدم قدرتهم على تحمل أعباء النزوح». المحمد مربي مواشي، كان عائداً لتوّه من مرجعيون. إذ يتناوب مع جيرانه على الخروج من البلدة لشراء الحاجيات، «لكي نقلص حركة السيارات من الوزاني وإليها، خشية تزامن مرورها مع التمشيط أو القصف والغارات».
عشرات من رؤوس الماشية في الوزاني نفقت برصاص التمشيط الاسرائيلي
ساري دياب الذي صمد في البلدة مع زوجته وأطفاله الثلاثة، يفرض برنامجاً مشدداً على التحرك خارج المنزل. «في النهار، لا يمكننا الوصول إلى الأطراف المكشوفة للمواقع الإسرائيلية. وقبل حلول المساء، تنعدم الحركة كلياً».
في عين عرب المجاورة، يعيش الأهالي أجواء الحرب «عن بعد»، بين مرابض مدفعية الاحتلال في تلال كفرشوبا ومزارع شبعا والمناطق المستهدفة من حلتا وراشيا الفخار وكفرشوبا شرقاً إلى الخيام وتلة الحمامص غرباً. محمد الأحمد، صاحب الملحمة الوحيدة في البلدة، أنهى عمله باكراً كما في كل يوم منذ بدء العدوان بعدما «انقطع عني زبائني الذين كانوا يقصدونني من الخيام والقليعة والبلدات المحيطة».
أهالي البلدة لم ينزحوا، بل استقبلوا في بداية العدوان بعض عائلات الوزاني ومئات العمال السوريين الذين لجأوا إليها من الوزاني والخيام وحلتا والمجيدية. بساتين العنب وحقول الخضر استوعبت تلك اليد العاملة الوافدة، ولم يوقف أصحاب الأراضي دورة المواسم: حرثوا وغرسوا وشحّلوا في المواقيت المعتادة. في الشمس، تحلقت النسوة ظهر أمس على شرفة منزل مختار عين عرب عثمان الأحمد، لتناول القهوة. رغم الغارات الوهمية التي نفذها طيران العدو وتحليق المسيّرات على علو منخفض، «الجو عادي. لا يقلقنا. حتى الأطفال اعتادوا عليه». لم تكد تكمل جملتها حتى دوّت غارة خلفها على مطلّ الجبل في شرقي الخيام وغطى دخانها الأبيض أحياء عين عرب، من دون أن تثير خوف الأطفال الذين واصلوا اللعب على الطرقات.
الطريق إلى الماري ليس أكثر أمناً، رغم وقوعها في أول خط التماس من ناحية سوق الخان وراشيا الفخار. الحركة داخلها شبه طبيعية. أهلها لم ينزحوا كما فعلوا في عدوان تموز 2006. «منذ السبعينيات، نعيش هذه الأجواء. نعتمد على المونة لتعويض نقص المواد في الدكاكين، ونخبز خبزنا بأيدينا، ونتدبّر أمورنا بغياب الدولة ونتحمل لكي لا نترك أرضنا»، قال زياد سعادة. ترتكز معيشة الأهالي على الانخراط في الجيش والقوى الأمنية وفي الزراعة. سهل الماري يمتد من حلتا وخريبة راشيا الفخار حتى الغجر والمجيدية. هاني العنز يملك أرضاً في حي البياض المحاذي للبلدة وأرضاً أخرى في المجيدية تعرّض لإطلاق نار عندما حاول الوصول إليها. سهل الماري فسيفساء من الخضر والحبوب والأشجار المثمرة، ومن عاملات يبدأن دوامهنّ منذ الفجر حتى الظهر. نورمان (22 عاماً) وزميلتها صالحة (17 عاماً)، عاملتان سوريتان تأتيان يومياً من عين عرب. «تمرّ القذائف والصواريخ من فوقنا. نخفض رؤوسنا ونكمل عملنا» تقول صالحة. أما نورمان فتتمنى لو أنها لا تأتي: «أودع أهلي يومياً عندما أخرج. لا أشعر بأني ذاهبة إلى العمل، بل إلى الموت بقدميّ».