موقع العهد الإلكتروني ـ زينب حيدر
تُؤرق أصوات الغارات والصواريخ التي يُطلقها العدوّ الصهيوني أطفال الجنوب اللبناني، فهم يرون في الكيان الإسرائيلي خصمًا، وينتظرون بلوغهم سنّ الرشد ليحاربوه ويسقطوا طائراته.
على الرغم من هذا، تبقى فطرة الطفل البريئة بحاجة إلى المواكبة السليمة لحمايتهم من أيِّ أذىً نفسيٍّ قد يلحق بهم بسبب صوت الطائرات الحربية التي تقترب من المنازل في الجنوب، أو صوت الغارات التي قد تقع إلى جانبها. فهم في البداية، كما هو طبيعي، سيشعرون بالرهبة قبل أن يعرفوا مصدر الصوت المرعب وعلته. لكن بعد أن يتّبع الأهل الخطوات التربوية المناسبة، نجد أن الطفل يكمل حياته بشكلٍ هادئ وينتظر عبور الطائرة الحربية بشجاعة. فكيف يشرح الأهل سياق الأحداث لأطفالهم؟ وما هي القواعد العامة والخطوات التربوية المناسبة لرسم مسار حياة الطفل في ظلّ الحرب القائمة؟
عندما يتحدث الأهل مع أطفالهم حول الحرب وقبل الإجابة عن أي سؤال، يجب أن يلتفتوا إلى العمر، فبحسب الباحثة في علم النفس الدكتورة أميمة عليق يقسم هذا الحديث بناءً على العمر لثلاثة مستويات. ففي المستوى الأول؛ ينبغي أن يحدِّث الوالدان الأطفال ما دون عمر السبع سنوات عن الجميل وغير الجميل، عن الحسن والسيِّىء، كما تُقدَّم لهم أمثلة أن الله -عزّ وجلّ- والمقاومة والمؤمنين هم نماذج للخير، والشيطان وأميركا و"إسرائيل" هم الشر. أما في المستوى الثاني؛ حيث يكون الأطفال بين عمر السبع والتسع سنوات، يخبر الأهل أولادهم أن الله يحب الخير ويريد منا أن نكون أخيارًا ويحب أن ندافع عن المظلومين. كما يذكرون لهم النماذج التي يجب أن يقتدوا بها؛ مثل : القادة والشهداء والعظماء الذين يقاومون الشر. ثمّ يبدأ الحديث في المستوى الثالث؛ حين يتجاوز عمر الطفل العشر سنوات عن أسباب الحروب وفلسفتها، وفلسفة النصر وشروطه ومتى يحدث؟..
عند التعمق أكثر والدخول في رواية الواقع الحالي للأبناء، تضيف عليق لموقع "العهد": "نحدث الأطفال من هم فوق السبع سنوات عن أسباب الحرب، وعن تاريخ "إسرائيل" وعن كلّ الظلم الذي فعلته، وعن جرائمها خلال التاريخ التي أدت كي يقوم المقاومون في فلسطين بما قاموا به".
قد يتساءل البعض لماذا يجب أن يعرف الطفل ما يحصل أو هل هذا مهم؟
أثبتت التجربة في فلسطين أن الذاكرة الحاضرة عند أبنائها تحقق قوة وشجاعة لمواجهة كلِّ اعتداءٍ جديد يقوم به العدوّ الصهيوني، فالفلسطيني لا يعيد قراءة التاريخ ليميز العدوّ أو ليقتنع بوجهة نظر المقاومة، بل على العكس نرى مبادراتٍ هدامة لجبروت الصهاينة المتزلزل بين المدة والأخرى.
وهذا ما تؤكده المستشارة في الشؤون التربوية فاطمة نور الدين في إشارتها لأهمية شرح القضية، وما يحدث على ساحة المقاومة لأبنائنا: "عادة عندما نستعد للأحداث يكون تأثيرها أخف، بالطبع وممّا لا شك فيه أن أي حدثٍ يتعلق بالحرب يحدث صدمة ووهلة، وبغضّ النظر عن نوع الاستعداد لكن المؤكد أن التأثير أخف وطأة". وتعقِّب نور الدين في حديثها لموقع "العهد" بمثالٍ عن أطفال غزّة، فبرأيها هم باتوا يمتلكون صلابة - لا مناعة روحية - بسبب ما عاشوه من حروب، ولطريقة تعاطيهم معها.
تحدد نور الدين قواعد عامة للاستعداد مع الأخذ بالحسبان أنه بالطبع هنالك استثناءات، فتبدأ بالتنبيه إلى اختلاف شخصيات الأطفال؛ فحين توجد الشخصية التي تخاف من أدنى حدث، تقابلها الشخصية الشجاعة، بغضّ النظر عن أسباب صفات الشخصيتيْن، لكن معرفة طبيعة الأبناء تخوِّل الأهل اختيار الطرائق المناسبة لشرح الأحداث وتعزيز قدراتهم وقابلياتهم. ثمّ تنتقل إلى تثبيت قاعدة أن الطفل يعيش ويشعر بما يعيشه الأهل، لتلفت إلى تفاوت شخصيات الأهل أيضًا وإلى ضرورة تطابق أقوالهم وأفعالهم أمام الأطفال. فلا يمكن للأم أن تُظهِرَ شعورها بالخوف في الوقت الذي تعبّر فيه عن ضرورة القوّة والشجاعة ضمن نشاطٍ تربويٍّ منزليّ.
إذًا الصلابة والقوّة مكتسبة، وجزء أساسي من اكتسابها هو الأهل كما يمر في الحالات الاستشارية التي تقابلها نور الدين، فتحدثنا عن تجربةٍ لفتاة، عمرها ثماني سنوات، أخذتها الوهلة من صوت صاروخٍ سقط على منطقة قريبة من مكان سكنها، وعند ملاحظة الأم لتغير حال ابنتها وتراجع تفاعلها، قامت باستشارة تربوية، وبعد التأكد من سلامتها الفيزيولوجية، وعند تطبيق الأم للخطوات المطلوبة تحسّن وضع الطفلة وعادت لطبيعتها. وهذا يشير إلى دور الأهل في احتضان أطفالهم وتفهّم هذه الأمور ورؤيتها على أنها أمر طبيعي، ففي واقع الأمر يبقى للأطفال روحهم الرقيقة التي لا تدخل في أبجديات فهم العدو.
كما يثبت هذه الفكرة السلوك الذي يقوم به طفلان يعيشان في جنوب لبنان، واللذين حاورا والدتهما، وهما علي ويبلغ من العمر ست سنوات وفاطمة ذات الثلاث سنوات. كانا في البداية يتفاجآن بأصوات الصواريخ والغارات، ثمّ صارا يلاحقانها ويتوجهان بالكلام إلى والدتهما بأنهما لا يحبان الصهاينة، وأن علي يريد محاربة الصهاينة عندما يكبر. وهذا التطور الجميل وقع بعد أن روت الأم لأطفالها ما يجري، ضمن الحدود التي لا تنعكس سلبًا على نفسية الطفليْن.
عادة ما تصقل الأحداث المؤلمة والتجارب الصعبة شخصية الإنسان، وهي حاجة لضبطه وتعويده على خوض التجارب، وتشجيعه لمواجهة الصعاب وليس للهرب واليأس من الحياة، ونرى هذا متجلِّيًا في الشباب المؤمن، المفعم بالأمل بما عند الله من إحسان. وينبع هذا الفكر من طفولة الفرد. إذ نلاحظ أن هذا الإنسان الذي يتربى على قواعد الانتصار يبقى أمله وتفاؤله متصدرًا ساحات المبارزة في حياته. في هذا السياق؛ تشدّد عليق على ضرورة التركيز على جانب الانتصار؛ فتقول: "يجب على الأهل أيضًا أن يركزوا على النصر والقوّة، وعلى قدرتنا على الانتصار. وأن يشرحوا للأطفال متى نقول إن فئة هي منتصرة وفئة غير منتصرة، يعني نتكلم عن أهداف الحرب ومن يحقق أهدافه هو المنتصر، حتّى لو كان هناك دمار كبير وشهداء كثر". كما تشاركها نور الدين الرأي قائلة: "جزء من أننا نقدر أن نواجه وننتصر بالحرب هي التربية الفكرية العقدية؛ أن نشرح لأطفالنا السنن الإلهية.. نخبر الطفل أن من ينصر الله نَصَره، ونحكي له قصص الأنبياء ونعطيه أمثلة من التاريخ الحديث".
تعدّ الأنشطة التربوية على اختلافها بابًا لتعريف المفاهيم والأحداث، ودخول الحرب في النشاط من عدمه يرتبط بمكان سكن الطفل. فالطفل الجنوبي لا يحتاج كثيرًا كي يتعرض لسوالف الحرب؛ لأنه يعيشها، أما الطفل الذي يسكن بعيدًا عن الجنوب فمن الجيد أن تمر بعض النقاط عن الحرب في الجنوب ليتعرّف الطفل إلى الحياة من حوله في كلّ مكان يخصُّه، وليتحصّن هو الآخر من أي قصّة قد يسمعها خارجًا، أو مشهدٍ قد يراه أو حدثٍ قد يحصل.
تطرح نور الدين مجموعة من الأنشطة التربوية التي يمكن للأهل اعتمادها في سبيل مساعدة أطفالهم على التفريغ والتسلية بعيدًا عن أجواء الحرب أو لشرح بعض المفاهيم وسياق الوضع القائم: "ثلاثة؛ لا تتطلب كثيرًا من الإمكانات ولا الجهد النفسي والوقت"؛ أولًا القصّة، فعندما تحكي الأم القصّة لطفلها على لسان شخصيات يمكن أن تكون خيالية؛ مثل الأرنب والذئب الذي يريد اقتحام البيت، تساعده على فهم ما يجري، ونتحدث هنا عمر ما دون العشر سنوات، أي الطفل الذي لا يفهم المجرّدات؛ مثل الظلم والعدل والاحتلال وغيرها، تُشرح له هذه المفاهيم عبر القصّة ليفهم الصورة العامة. ولتعرف الأم ما يدور في ذهن طفلها، عليها أن تجعل القصّة فعّالة أكثر عبر تحويلها إلى قصّة تفاعلية فيها أسئلة وأجوبة على سبيل المثال".
ثانيًا الرسم؛ قد يستخف البعض بهذا الموضوع ويهزأ كما تعبر نور الدين، والتي أطلعتنا على دراسة قامت بها الجامعة اليسوعية بعد حرب تموز 2006، حين درسوا ما كان يشعر به الأطفال وتأثير الحرب عليهم من خلال الرسومات، عبر جمعهم مئات النماذج لرسوم الأطفال في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت وغيرها من المناطق، ثمّ لاحظوا وحللوا الأفكار التي يعيشها الأولاد وما علِق في ذهنهم من الحرب من خلال الرسم. فالرسم يقصُّ لنا الكثير، وتضيف فاطمة نور الدين: "أنا لا أطلب من الأم أن تحلل رسومات طفلها، لكن أقول لها إن الرسم له دور في فهم نفسية الطفل، وأنتِ على الأقل تستطيعين استخدامه وسيلةً للتفريغ، فقط مطلوب منك إحضار دفتر، ورقة وألوان واطلبي من الطفل أن يرسم".
ثالثًا؛ لعب الأدوار، وأيضًا هناك أشخاص تستهجن من الاسم، وهو نوع من الأنشطة التمثيلية، والذي يتطلب أن تأخذ الأم وأطفالها أدوارًا معينة ليمثلوا مواقف متنوعة، يجري اختيارها بحسب رغبة الأطفال أو بالاتفاق معهم، وهي قد تكون عن الحرب وقد لا تكون. ويُعدّ لعب الأدوار كذلك نوعًا من التفريغ وإدخالًا للمفاهيم إلى ذهن لأطفال.
هذه أساليب وطرائق نرى نتائجها الوضاءة في العديد من أطفال الجنوب المقاوم، فهم غالبًا ما يروون للزائرين والكاميرات حكايات آبائهم وآمالهم بالالتحاق بالخطِّ الأصفر المنير في قلوبهم وأرواحهم الصغيرة التي تتعلم كيف تقاوم المعتدي، وتهزم أوهامه بأحلامها وتحدياتها له منذ الصغر. يخيفون الصهاينة هم بأرواحهم اللطيفة، يرميهم العدو بصواريخه على ديارهم ومنازلهم الآمنة. هم الخطر الحقيقي على الكيان، في الحاضر والمستقبل، وأبطال صنعوا من تراب الأرب، وجيل من الشهداء عبّد لهم طريق التحرير والإباء.