الأخبار ـ كريم الأمين
بحسب البنك الدولي استورد لبنان في عام 2023 بقيمة 19.7 مليار دولار، أي 109% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 18.1 مليار دولار، وهو أمر يثير التساؤل، إذ كيف يمكن أن تكون أرقام إنفاق اللبنانيين أعلى من مداخيلهم؟ ففي سنوات ما قبل الأزمة، أي بين عامَي 2015 و2019، لم يكن الاستيراد يزيد عن 62% من الناتج المحلي، وبعد انهيار قيمة الليرة مقابل الدولار وتراجع القدرة الشرائية بشكل هائل، يصعب تصوّر هذا الورم في الاستيراد.
ثمة الكثير من التفسيرات، لكن أحدها يتعلّق بوجود تسييل للعقارات التي تمثّل أحد مصادر الدخل الإضافية التي يؤمنها الفرد، والتي تتيح له زيادة استهلاكه. وهذا الأمر يمكن تتبعه عبر حركة «الشيكات» التي تظهر في النظام المالي، أو عبر حركة البيوعات «الكاش». وهناك تفسير آخر ينطلق من أن التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان وتتيح للبنانيين زيادة استهلاكهم ترفع من قدراتهم الشرائية بقيمة 400 دولار شهرياً أو 300 دولار شهرياً وفقاً للتعميم 158، أو بقيمة 150 دولاراً من التعميم 166 الذي دخل حيّز التنفيذ ولكن لم يطبّق بعد. كذلك، يمكن القول إن الذين لديهم مدّخرات مخبأة في المنازل استخدموها لتمويل حاجاتهم الاستهلاكية... إلا أن كل هذه المسارات لا تكفي لتفسير الارتفاع الهائل في أرقام الاستيراد.
قد يكون التفسير الأنسب مرتبط باتّساع حجم اقتصاد الظلّ، أو ما يعرف بـ «الاقتصاد الموازي» الذي يكون نشاطه غائباً عن القيود الرسمية في الإدارات والمؤسسات، لذا يظهر هذا الاقتصاد في الاستهلاك، ولا يظهر في جانب المداخيل المصرّح عنها. فهو اقتصاد يتعلق بوجود شركات غير مصرّح عنها أو شركات لديها عمال وأجراء غير مصرّح عنهم ولا تصرّح عن أرباح ولا عن أي نشاط، وبالتالي تندرج في إطار التهرّب الضريبي، سواء كان نشاطها شرعياً أو غير شرعي.
يمكن الاستدلال على حجم اقتصاد الظلّ عبر بعض الأرقام الرسمية. بحسب البنك الدولي، كانت نسبة الإيرادات الضريبية من الناتج المحلّي في لبنان في أعوام ما قبل الأزمة تبلغ 15.4% في 2017، و15.3% في 2018، و15.4% في 2019. لكن خلال الأزمة، انخفضت نسبة هذه الإيرادات إلى 8.9% في 2020 و5.7% في 2021. بالمقارنة، ارتفعت في المغرب لتبلغ 22.1% في 2022، وفي دول متقدّمة مثل فرنسا فإنها بلغت 24% في 2021. مجرّد وجود نسبة متدنية من الإيرادات الضريبية قياساً إلى الناتج المحلي، فهذا دليل على وجود تهرّب ضريبي. وبالتالي يمكن الاستنتاج بأن اقتصاد الظلّ يتّسع في لبنان.
لكن هناك تقديرات ومؤشرات يمكن الركون إليها لتعزيز الأدلّة على هذا التوسّع. فبحسب أرقام منظمة العمل الدولية، إن العمالة غير المصرح عنها (غير المنظمة) في لبنان تصل نسبتها إلى 62.4% في عام 2022. وبحسب أرقام البنك الدولي فإنه في عام 2022 يقدّر اقتصاد الكاش ب9.8 مليارات دولار، أي 45% من الناتج المحلي لذلك العام. كما أن لبنان يحلّ في المرتبة 150 من أصل 180 دولة في العالم في مؤشّر مدركات الفساد عام 2023، بنتيجة 24/100، وهي نفسها النتيجة التي كانت في عامَي 2021 و2022. وبحسب إصدار منظمة الشفافية الدولية، مقياس الفساد العالمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2019، فإن في لبنان، 80% من اللبنانيين ثقتهم شبه معدومة في الحكومة، و72% في المحاكم، و59% في الشرطة. بالإضافة إلى أن 41% من الأفراد الذين لجأوا إلى الخدمات في القطاع العام في الأشهر الـ12 الأخيرة (عام 2019) دفعوا رشوة، وهو أعلى معدل رشوة بين الدول العربية في الدراسة.
في الاقتصاد غير النظامي أو اقتصاد الظلّ، يتم تشغيل العمّال بشروط بخسة في الراتب وانعدام التقديمات الأخرى الصحية والتعليمية مثلاً، بل يتم استغلالهم بشكل واسع من قبل أصحاب عمل يتهرّبون من الضريبة. ورغم أن الشركات غير النظامية تُدخل أموالاً إلى البلد، إلا أنها تنافس بشكل غير مشروع الشركات النظامية عبر عامل التهرّب من تسديد الضريبة. يفترض أن تستخدم الدول هذه الإيرادات من أجل الاستثمار في البنية التحتية وعلى خدمات الصحة والتعليم والنقل والأمن وسواها. كما أن كل الأموال التي تدخل عبر القنوات الشرعية وغير الشرعية، تعزّز الطلب الاستهلاكي على سلع مستوردة من الخارج. إذاً، أيّ تعافٍ يروّج له اليوم إذا كانت مشكلات لبنان ستزداد سوءاً عما كانت عليه قبل الأزمة.
الانكشاف على الخارج
يمكن الاستدلال على أثر الاقتصاد غير النظامي عبر مقارنة الإنفاق العام على القطاعات بين عامَي 2018 و2024. ففي عام 2018 أنفقت الحكومة على الحماية الاجتماعية 3.2 مليارات دولار، أي بمعدل وسطي يبلغ 533 دولاراً للفرد الواحد، بينما في موازنة 2024 خصّصت الحكومة للحماية الاجتماعية 928 مليون دولار لتنخفض حصّة الفرد إلى 180 دولاراً. كذلك أنفقت الحكومة في 2018 على التعليم 1.3 مليار دولار، أي 215 دولاراً للفرد، أما عام 2024 فخصصت الحكومة 194 مليون دولار للتعليم، أو 37 دولاراً للفرد الواحد. وأنفقت الحكومة في 2018 نحو 1.8 مليار دولار على الدفاع، أو ما يوازي 300 دولار للفرد الواحد، أما عام 2024 فخصصت الحكومة 441 مليون دولار للدفاع ما يوازي 85 دولاراً للفرد الواحد. بتراجع هذا النوع من النفقات، أصبحت القطاعات مكشوفة على الخارج بشكل واسع، وأبرزها الدفاع الذي أصبح بقبضة الولايات المتحدة وقطر اللذين ينفقان 100 دولار بالشهر لكل عسكري، والتعليم بيد اليونيسيف التي تنفق بالحد الأدنى عشرة أضعاف ما تنفقه الحكومة على التعليم.