ماهر سلامة\ صحيفة الأخبار
يتربّع لبنان اليوم على عتبة الولوج في حلقة الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي وبرامجه. وكما في معظم الدول التي عانت من أزمات اقتصادية في التاريخ الحديث، أصبح «المسار الطبيعي» المُنتظر من لبنان أن يقدم على توقيع الاتفاق حول برنامج الصندوق، كملاذ أخير للخروج من الأزمة المركّبة الواقع فيها. وفي مواجهة هذا الخيار «الواضح»، راجت خطابات محلية عدة تتحدث عن وظيفة الصندوق، وكلّها تعبّر عن مواقف هي نتاج خلفيات مختلفة.من هذه الخطابات ما يتعاطى مع الصندوق على أنه طرف يملك الخبرات الاقتصادية، أو الطرف التقني، الذي يتعامل مع البلدان التي لا تمتلك الخبرات التقنية الكافية لمواجهة الأزمات الاقتصادية. البعض الآخر يتعامل معه كوسيلة تفرض على السلطة السياسية والنقدية في البلد إصلاحات يؤكد أنها لازمة لمواجهة الأزمة، بمعنى أنه القوة الخارجية التي ستجبر صانعي السياسات المالية والنقدية في البلد على اتخاذ التدابير التي يرفضون المضيّ بها من دون أمر خارجي. وهناك أطراف تتحدث عن الصندوق كوسيلة للعودة إلى الأسواق العالمية، أي أنها تنظر إليه على أنه المفتاح الذي يشرّع أبواب البلد للتدفقات المالية الأجنبية إلى أسواقه. وهناك تيار يتحدث عن الصندوق المدمّر للمجتمعات والاقتصادات، الذي ينتج من برامجه وشروطه مسافات اجتماعية، تفصل بين الطبقات، ويوقع الدول في فخّ الدين، ومن ثم العجز ونتائج أخرى خطيرة على المجتمعات.
إلا أن كل هذه الخطابات السائدة لا تتطرّق إلى الحديث عن نتائج الصندوق على الاقتصاد السياسي في البلد. في الواقع، أدّت الأزمة في لبنان إلى تفكّك نظام الاقتصاد السياسي الذي كان قائماً في العقود الأخيرة. مع انهيار القطاع المصرفي، الذي كان يمثّل وسيلة لتدفقات رؤوس الأموال من الخارج، التي استُخدمت، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي لتثبيت سعر الصرف، وهو كان أحد العوامل الأساسية لهدر تلك الأموال.
تروّج النخب أن الاتفاق مع الصندوق والخضوع لشروطه هو السبيل الوحيد لعودة التدفقات
انهار هيكل الاقتصاد السياسي الذي بُني عليه لبنان منذ قيامه، تجدّد وتمّ ترميمه في مطلع التسعينيات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النسخة التي شهدها البلد من الاقتصاد السياسي اللبناني المرمّم، منذ التسعينيات، هي امتداد للنسخ السابقة، التي كانت تعتمد على القطاعات الخدماتية، وبشكل أساسي القطاع المصرفي أيضاً، إلا أن هذه النسخة الأخيرة اختلفت من خلال السياسات النقدية التي تسبّبت في هدر العملات الأجنبية وما نجم عنه من الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي.
الفكرة هنا هي أن نموذج الاقتصاد الخدماتي، الذي اعتمد بشكل كبير على تدفقات رؤوس الأموال الخارجية إلى البلد، انتهى. لذا، فإن أهم اعتبار تروّج له النخب لتدفع نحو الاتفاق مع الصندوق والخضوع لشروطه، أنه السبيل الوحيد لعودة التدفقات إلى البلد. وبالفعل، قد يكون هذا إحدى نتائج وضع «ختم» وتوقيع الصندوق. فعلى سبيل المثال: شهدت مصر تدفقات رأسمالية كبيرة في السنوات الأولى بعد الاتفاق مع الصندوق. إلا أن هذه التدفقات كان مصيرها أن تدخل إلى القطاع المالي والقطاعات الريعية الأخرى في السوق المصرية، حيث يتوفر الربح السريع، وعند أوّل مفترق طرق، تخرج رؤوس الأموال هذه بسهولة تامّة، تاركة البلد في حالة لا يحسد عليها... بشكل عام، نتائج الصندوق لا تقتصر فقط على الإجراءات التقشفية ونتائجها على المجتمع، فهذه الإجراءات تحمل نقاشاً اقتصادياً على جدواها من عدمه. النتائج المهمّة هي تلك المتعلّقة بشكل الاقتصاد السياسي، وهو ما يطرح سؤالاً مهماً: كم من البلدان التي دخلت في اتفاقيات مع الصندوق استطاعت أن تحوّل اقتصادها نحو الإنتاج مثلاً، أو استطاعت أن تعالج المشكلات الجذرية في بنية اقتصاداتها السياسية؟