ترفع المعلمة أسماء مصطفى ذراعها عالياً، ثم تصفّق بقوّة مع ابتسامة رقيقة تغمرها وجميع الأطفال النازحين وسط الرمال والخيام التي جمعتهم في مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، بالتزامن مع ارتفاع أصوات الطائرات الحربية الإسرائيلية والانفجارات. وبصوت يملأه التحدّي، تقول للأطفال وهم يمرحون: «لن نتوقّف عن التعليم والتعلّم وممارسة الأنشطة مهما قتل الاحتلال من معلّمين، أو دمّر العشرات من المدارس والجامعات ورياض الأطفال». وتؤكد المعلمة، في حديث إلى «الأخبار»، أن «إسرائيل تشنّ حرباً ضروساً ضدّ العلم والعلماء في قطاع غزة لقتل الوعي والثقافة والعلم ووقف مسيرة الإنجازات والابتكارات التي تميَّز فيها أبناء شعبنا على مدار العقود الماضية».وأسماء التي نجت من استهداف القطاع التعليمي، كانت قد نزحت بعد مرور أسبوعين على بدء الحرب، من شمال غزة إلى وسطها، ثم عاودت النزوح إلى مدرسة «الفخاري» في خانيونس جنوب القطاع. وفي المدرسة التي باتت مركزاً لإيواء النازحين، لاحظت توفّر مئات القصص التعليمية القصيرة للأطفال، التي يمكن أن ترويها لهم لـ«إبقاء عقولهم متّصلة مع مهارات التفكير والإدراك والفهم والتطبيق والتركيب، وإزالة حالة الرعب والخوف التي باتت تسيطر على هؤلاء»، فقرّرت تعويض ما فاتهم داخل منشآتهم التعليمية، بتخصيص بعض الأنشطة المتنوعة، ما بين ممارسة كرة القدم والموسيقى والقراءة والاستفسارات وطرح الأسئلة. وعلى مدى ثلاثة أشهر، قامت بهذه المهمّة طواعية، قبل أن يجبرها الاحتلال مع جميع السكان والنازحين على المغادرة مجدّداً، فاتّجهت هذه المرّة إلى منطقة مواصي رفح جنوب القطاع.
ولم يمرّ أسبوع على نصب خيمتها هناك، حتى استأنفت أسماء التعليم في الخيام وبين الرمال، متسلّحة بحقّها في ممارسة مهامّها للحفاظ على الأجيال الفلسطينية.
الخسائر الأولية والمبدئية والمباشرة لقطاع التعليم قدّرت، بحسب معطيات أوّلية غير نهائية، بنحو 12 مليار دولار وعلى غرار أسماء، ثمة كثر يصرّون على استكمال مشوار التعليم، على رغم الاستهداف الإسرائيلي المتعمّد له. ومن بين هؤلاء، الباحث أحمد أبو دلال، الذي استكمل مشواره للحصول على درجة الدكتوراه من «الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا»، والذي كان قد بدأه برفقة زميله الشهيد أنور الغوطي؛ إذ ناقش رسالته، التي حملت عنوان «الفكر الأصولي للقاضي عبد الجبار... دراسة تحليلية تقويمية»، عن بُعد من داخل مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، بالتزامن مع ارتكاب الاحتلال المجازر. وفي حديثه إلى "الأخبار"، يقول الباحث الغزّي: «تعرّضت للكثير من المعوّقات إثر تداعيات الحرب الإسرائيلية، أبرزها استشهاد العشرات من الأقارب والأصدقاء والأحباب، وعدم القدرة على السفر لإجراء المناقشة، إذ يُسمح فقط للحالات الخطيرة بالسفر وأصحاب التنسيقيات ذات المبالغ المرتفعة جداً». ويتابع: «كان يجب أن تُجرى المناقشة داخل صرح إحدى الجامعات، ولكن تعرّضت معظمها للتدمير في قطاع غزة، والوضع الأمني لم يسمح بذلك، فضلاً عن ضعف شبكة الإنترنت بين الفينة والأخرى، أو انقطاعها، خلال حاجتي إلى التواصل مع الجامعة لترتيب إجراءات المناقشة، ومشكلة انقطاع الكهرباء، على رغم الحاجة إلى تحويل الرسالة إلى عرض مرئي، حيث لم أتمكّن من تجهيز سوى نصف صفحة يومياً»، مشيراً إلى أن «الجامعة أجّلت مناقشتي ثلاث مرات». وعلى رغم تلك المعوّقات، استطاع أبو دلال إجراء المناقشة داخل شركة لتزويد الإنترنت، يوم الخميس في 22 كانون الثاني الماضي، علماً أن مدير الشركة اضطرّ إلى قطع الخدمة عن جميع المشتركين وعددهم قرابة الألفين، كي تُجرى المناقشة من دون إشكاليات لمدّة ساعتين. يقول أحمد: «قبل يوم من المناقشة، استشهد زميلي أنور»، مستدركاً بأن «حادثة استشهاده دفعتني بقوّة للاستمرار في المناقشة، التي كانت بمثابة رسالة أمل في استمرار العلم».
وفي توثيق لواقع التعليم في قطاع غزة في ظلّ الحرب، يؤكد المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، إسماعيل الثوابتة، لـ«الأخبار»، أن العدوّ قتل «نحو 11 ألف طالب وطالبة من طلبة المدارس والجامعات، ودمّر نحو 100 مدرسة وجامعة بشكل كامل، فيما تضرّرت أكثر من 300 مدرسة وجامعة بشكل جزئي»، مشيراً إلى أن «جيش الاحتلال يستهدف بذلك، فرض سياسة التجهيل بشكل مقصود ومتعمّد قائمة على حرمان أبناء شعبنا من التعليم، أو من فرص الحصول على التعليم الجيد، ومنع تطوّرهم». وتهدف «عملية التجهيل» إلى «محاولة إخضاع أبناء شعبنا والسيطرة على عقول الأجيال لتفريغها من مضمونها، وبالتالي هي تستهدف تغييب القضية الفلسطينية»، وفقاً للثوابتة الذي يشير إلى أن هذه المحاولة تأتي أيضاً «ضمن سياسة التمييز العنصري التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي ضدّ أبناء شعبنا الفلسطيني، وتُعدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، ومخالفة واضحة للقانون الدولي ولكلّ القوانين التي تكفل الحقّ في التعليم».
وخلافاً للذريعة التي يسعى الاحتلال إلى تسويقها لتبرير «اغتيال أكثر من 100 من العلماء وأساتذة الجامعات»، يعتبر الثوابتة أن هذه الاغتيالات «تعدّ جريمة مركّبة، على اعتبار أنهم أولاً مدنيون بصورة بحتة، وليس لهم أيّ ارتباطات عسكرية أو ذات طابع عسكري، وثانياً أنهم من الطبقة التي من المفترض أن تكون محميّة بالقانون، حيث إن لاغتيالهم آثاراً مدمّرة على المجتمع الفلسطيني بشكل كبير، في ظلّ الخسارة الفادحة لمسيرة العلم والمعرفة». وبحسب الثوابتة، «يؤدي ذلك إلى عرقلة التقدّم العلمي والتكنولوجي وتعطيله، وخاصة لمن له باع طويل في الأبحاث العلمية والنقلات العلمية النوعية، فضلاً عن خلق جوّ من الرعب والخوف، وثني العلماء والأكاديميين عن الابتكار والإبداع». وفي ما يتعلّق بالخسائر المادية التي لحقت بقطاع التعليم، يبيّن الثوابتة أن «الخسائر الأولية والمبدئية والمباشرة لقطاع التعليم قدّرت، بحسب معطيات أولية غير نهائية، بنحو 12 مليار دولار».