الأخبار ـ المنذر الدمني
في ظل التضييق العالمي على السردية الفلسطينية، وخصوصاً خلال الحربّ الحالية على غزة، تقيم المخرجة كارول منصور فعاليةً عالميةً بالتعاون مع مؤسسة «أفلامنا» لعرض فيلمها «عايدة» (Aida returns ـــــ 72 د ــــ 2023) اليوم في أكثر من 40 مدينة حول العالم. الفيلم الذي يتمحور حول حفظ الذاكرة وتوارثها عبر الأجيال، يُعدّ خطوة مهمّة في سياق مقاومتنا المستمرة وبأشكالها المختلفة، سواءً في شكلها الثقافي الذي يحفظ ذاكرتنا وسرديّتنا من الزوال، أو في شكلها السياسي والنضالي الذي يذكّرنا بحق العودة.
في فيلمها الأول «100% أسفلت» عام 2000، طرحت المخرجة اللبنانية الفلسطينية كارول منصور حكايات ومعاناة أطفال الشوارع في القاهرة. ورغم عملها على أطفال القاهرة، إلا أنّه أثناء التكريم، وقفت مع المخرجتين ماريز غرغور ومي المصري على المسرح، فقالت لها ماريز: «نحن ثلاث نساء فلسطينيات على المسرح». وهنا بدأ عند منصور الوعي بسؤال الهوية على حد تعبيرها، وذهب نحو النضج الذي سنراه في أفلامها عن فلسطين.
عالجت منصور ثيمات كثيرة في أفلامها منها قضايا التغييب القسري وحقوق اللاجئين، والعمال المهاجرون، والصحّة النفسية، والحرب والذاكرة، وعمل الأطفال، وحقوق النساء. لكن ما تميّزت به حقاً هو آلية اختيارها للقصص والشخصيات، وطريقة السرد. في فيلمها «خيوط السرد» (2017)، قاربت القضية الفلسطينية بطريقة غير مباشرة عبر 12 امرأة فلسطينية يمارسن مهنة التطريز، ويتحدثن عن ذاكرتهن، وحياتهن، ورؤيتهن للعالم، مع اختلاف خلفيتهن المهنية من المحاماة إلى الطبخ، ومن السياسة إلى الفن والهندسة. خيارها في سرد الحكاية بهذه الطريقة، يعبّر عن بحث منصور الدائم عن ماهية الهوية والحرية، وثوابت القضية والإيمان بالحق عبر نماذج إنسانية بحت تتحدث ببساطة عن الحياة والذاكرة والأحلام. هذا ما نجده في فيلم «عايدة» بخصوصية عالية على صعيد الحكاية والصنعة الفنية. يتحدث الفيلم عن امرأة فلسطينية تدعى عايدة عبود (والدة المخرجة كارول منصور) تسرد ذكرياتها عن مدينتها يافا، ونتابع بعد وفاتها رحلة ابنتها وأصدقائها الذين يسعون إلى إعادة رماد عايدة إلى منزلها وإلى بحر يافا الذي دائماً ما أحبّته، ليتحدّوا سياسة الفصل العنصري للاحتلال الذي يمنع دخول أيّ جثمان كي يُدفن في البلاد، مشدّدين على عدم عودة أصحاب الحق سواءً وهم على قيد الحياة أو محمّلين في نعوش أو حتى على شكل رماد.
يقسم الفيلم إلى ثلاثة خطوط سرد أساسية: الأول في بيروت عام 2007 حيث نرى عايدة امرأة قوية تسرد ذكريات واضحة عن لحظات خروجها مع عائلتها من يافا متّجهين نحو لبنان. وتخبر ابنتها تفاصيل حياتهم في لبنان وهاجس العودة الذي لم يفارقهم. الثاني في مونتريال عام 2015 حيث نرى عايدة امرأة كبيرة في السنّ تعاني من الزهايمر، تختفي ذاكرتها تدريجاً باستثناء ذكرياتها عن بحر يافا. تذكّر نفسها دوماً بأنّها أم لكارول، وتسرد الكثير من ذكريات الطفولة عن حيّها القديم في يافا، لنجد اختلافاً واضحاً بين الصورتين. تتمحور الأولى حول إخبار واضح للتاريخ. أما الثانية فكانت بدافع التذكر والخوف من النسيان والموت. خط السرد الثالث يرتبط بمرحلة ما بعد وفاة عايدة، ويتكوّن من رحلة كارول بالتعاون مع صديقتيها تانيا ورائدة لإعادة رماد عايدة إلى الوطن، باحثتين عن مكان المنزل الذي تملكان إحداثيّاته من ذكريات عايدة فقط. تانيا ورائدة في فلسطين تبحثان في يافا عن المنزل، وكارول معهما عبر الفيديو. بعيون دامعة وقلب كبير، يتحقق هدف والدتها لكنّها ممنوعة من دخول البلاد ولو كرماد!
يقدم الفيلم هذه الخطوط في قالب سردي متجانس إلى حدّ كبير، بين المعلومات اللازمة مع عناصر تشويق درامية وشحنات عاطفية ضمن رؤية بصرية مليئة بالصور القديمة، متنقلةً بين فضاءات مدن مختلفة، ومغلّفة بشريط سمعي مليء بمؤثرات المكان، وصوت عايدة والأغاني القديمة. كل هذا يمتزج ليقدم رحلةً زمانيةً مكانية عاطفية تخلق علاقة قريبة مع عايدة وكارول، ليبدو وصول رماد عايدة إلى المنزل والمقبرة والبحر في يافا انتصاراً شعورياً لصراع الذاكرة، وانعكاساً لأسلوب مقاومة مستمرّ.
عبر صور عايدة المختلفة عن ذاتها وعن المكان، قدّمت الحكاية رمزيةً عالية لعلاقتنا المعاصرة بالقضية الفلسطينية التي انتقلت من جيل خائف من النسيان كمرض وجودي فظلّ يصارع إلى النهاية مع ذكرياته عن المكان، إلى جيل حمل رفات الماضي وعاد به إلى المكان ليقدم فعلاً مقاوماً، حافظاً الذاكرة بطريقته المختلفة.
قدّمت الحكاية رمزيةً عالية لعلاقتنا المعاصرة بالقضية الفلسطينية
تَكثر الأفلام التي تتحدث عن القضية الفلسطينية عبر توثيق ذكريات أشخاص خرجوا في عام 1948، لكنّ خصوصية فيلم «عايدة» تكمن في رحلة العودة، وخصوصية السرد الحسّاسة التي تنتهي بمشهد الصديقة رائدة وهي تدخل شطّ يافا، صارخةً ببيت لمحمود درويش «هذا البحر لي» حيث ترمي رماد عايدة في البحر، منطلقةً نحو حريتها من كل القيود في مكانها الذي ولدت فيه.
مع أهمية الفيلم بشقّيه السياسي والتوثيقي، إلا أنّه يقدم أسئلة مهمة عن معنى الحرية الواسعة المتمثلة في البحر وحق العودة بممارسة هذه الحرية. يقدم علاقة خاصة بين ابنة ووالدتها، وعلاقة إنسانية مع الحب والأحلام والشيخوخة والذاكرة والموت والاستسلام للمصير والمقاومة البسيطة للبقاء.
يتزامن العرض العالمي للفيلم مع ذكرى ميلاد عايدة عبود في 18 آذار (مارس)، وهذا يمثل أهمية خاصة تتعلق بالشخصية وصانعة الفيلم، كما يمثل أهمية أخرى أوسع في ظل الحرب الدائرة والتغييب القسري للسردية الفلسطينية. ومع أنه من المهم تدعيم واستغلال الخطاب التضامني العالمي، إلا أنه من المهم أيضاً تقديم الفيلم على أنه جزء أصيل من سردية تمتد منذ أكثر من 75 سنة، لم تبدأ مع الحرب الأخيرة على غزة كما يتم تقديمها للعالم اليوم، ولن تنتهي مع انتهاء الحرب. إنّها سردية إنسانية في الدرجة الأولى تتمحور حول أحقية الأرض وحلم العودة والحرية المبتغاة.