الأخبار ـ ماهر سلامة
هل عاد سلوك المستهلك اللبناني إلى ما كان عليه قبل الأزمة؟ تشي مؤشرات الاقتصاد الكليّة، ولا سيما عودة حجم الاستيراد إلى ما كان قبل الأزمة، بأن النشاط الاستهلاكي استعاد نمطه المفرط الذي كان سائداً قبل الأزمة.
ويأتي ذلك رغم التشوّهات الإضافية التي أصابت بنية المجتمع والتحوّلات الطبقية فيه، ولا سيما تدنّي مستويات الدخل وضغوط ارتفاع الأسعار على الأسر الفقيرة التي قلّصت اهتمامها بخدمات أساسية مثل التعليم والطبابة، مقابل اتّساع طبقة أصحاب المداخيل المرتفعة.كان متوقّعاً أن تطرأ تغيّرات بنيوية على نمط الاستهلاك بعد خسارة في قيمة الليرة بلغت 98%، وإفلاس مصرفي مسَحَ مدّخرات اللبنانيين بالليرة والدولار معاً. لكن ما حصل لم يدم إلا لنحو سنتين من عمر الأزمة البالغ خمس سنوات والتي لم تنته بعد. أرقام الاستيراد تدلّ على ذلك بوضوح بما أن الجزء الأكبر من الاستهلاك اللبناني مستورد. ففي السنة الأولى للأزمة (2020)، انخفض الاستيراد إلى النصف تقريباً ليبلغ 11 مليار دولار، وفي السنة التالية سجّل الاستيراد نحو 13 مليار دولار، وبعدها ارتفع إلى 19 مليار دولار، أي إلى مستويات ما قبل الأزمة.
كان للأزمة في عامي 2020 و2021، وقع هائل على المستهلك، فرضت عليه التكيّف مع تقلّص المداخيل وانقطاع السلع الأساسية رغم أن استيرادها كان مدعوماً. وبالتوازي مع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، سجّلت ارتفاعات قياسية ومتواصلة في معدلات التضخّم، إذ تضاعفت الأسعار 57 مرّة (لغاية نهاية شباط الماضي)، وتعمّق انهيار القدرة الشرائية للأجور بسبب تبخّر المدّخرات في المصارف. هكذا، أصبح المستهلك في حالة قلق ولا يقين دفعته إلى التقشّف خوفاً من فقدان الوظيفة والدخل. لذا، جاء ردّ فعل المستهلك في اتجاهين: محاولة الادّخار تحسباً للأسوأ، وتعديل في شكل الادّخار ربطاً بأحداث مماثلة في التاريخ القريب، إذ إنه في الثمانينيات انهارت الليرة وتبدّدت قيمة المدّخرات بالليرة لدى المصارف، لكن نجا منها من كانت لديه مدّخرات بالعملة الأجنبية.
في الواقع، الدولرة تعبّر عن هذا السلوك بشكل واضح وتختزل مسار النموذج الاقتصادي القائم. فمع تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار، بُني سلوك المجتمع الاستهلاكي على أساس أن «لا ثقة بالليرة» فأخذت نسبة الدولرة بالتزايد إلى أن تجاوزت 70%. الدولرة مع تثبيت سعر الصرف، دعمت القوّة الشرائية وحفّزت الاستهلاك المفرط. كل ذلك تطلّب دولارات لتمويل الاستيراد، ثم بدأت المصارف تستقدم الدولارات وتقرض الدولة (الخزينة ومصرف لبنان) بالعملة الأجنبية، أطلقت أيضاً طفرة في النمط الاستهلاكي يقوم على قروض استهلاكية من قروض الإسكان إلى قروض عمليات التجميل والسفر وأنواع أخرى من الرفاهية.
يحاول أولريك مالميندير وكلينت هاميلتون في مقال نشره صندوق النقد الدولي تحت عنوان «دروس جديدة من الاقتصاد السلوكي»، تفسير ظاهرة التغيّر في سلوك الفرد الاقتصادي بناء على تجاربه. يقول الباحثان إن اتخاذ القرار في ظل المخاطر، يتمثّل من خلال إعطاء وزن أكبر للنتائج التي شهدها الناس في الماضي. فالمستثمرون في الأسواق المالية، مثلاً، إذا شهدواً انهياراً كبيراً في الأسواق، يفترضون احتمال تكرار الأمر، فيزداد وزن المخاطر في آليات اتخاذ القرار. بالطريقة نفسها، اعتقد اللبنانيون منذ التسعينيات بأن أزمة الليرة قد تتكرّر، لذلك كانت المخاطر جزءاً وازناً من عملية اتخاذ قرار الادّخار بالدولار بدلاً من الليرة. أيضاً اللبنانيون شهدوا التضخّم القياسي في الأسعار، وبالتالي كانت توقعاتهم المستقبلية تعكس قراراتهم في السوق. فعلى سبيل المثال، أن اختيار شراء منزل أو استئجاره، هو قرار مرتبط بالمدى الزمني للمخاطر، لذا يقول مالميندير وهاميلتون، إن الذين شهدوا معدلات تضخم أعلى خلال حياتهم، يميلون أكثر إلى اختيار ملكية المساكن، ويختارون القرض العقاري بسعر فائدة ثابت، بدلاً من معدلات قابلة للتعديل بحثاً عن الحماية من التضخّم وارتفاع أسعار الفائدة.
لكن بقاء النموذج الاقتصادي على حاله من التشوّهات العميقة، انعكس مباشرة على سلوك المستهلك في لبنان بعد مضي سنتين على الأزمة. لهذا الأمر أسباب متصلة بكون النموذج يقوم على التدفقات من الخارج التي انتعشت مجدداً بفعل المغتربين: أصبح تمويل الاستهلاك يأتي مباشرة إلى المستهلكين بدلاً من مروره عبر القناة المصرفية التي توزّعه على شكل قروض. أي تغيّرت القناة لكنّ التدفقات استمرّت. وبات شراء السلع الاستهلاكية المتوسطة الأجل، مثل السيارة والهاتف الذكي، مرتبطاً بوجود مدّخرات نقدية في ظل انعدام الثقة بالمصارف.
عملياً، هذه العودة إلى نمط الاستهلاك المفرط هي أحد أوجه «التعافي السيئ» الذي عاد إليه الاقتصاد اللبناني، إذ أدّى التكيّف مع انهيار النموذج إلى نسخة جديدة منه أكثر رداءة.