صحيفة الاخبار - ماهر سلامة
تشير تقديرات مصرفية إلى أن ودائع الفريش في القطاع المصرفي تزيد عن 3 مليارات دولار، علماً أنها كانت أقلّ في الأسابيع الماضية، إذ ورد في إحدى الجلسات التي عقدت بين جمعية المصارف وبين حاكم مصرف لبنان أنها كانت 2.7 مليار دولار. هذه الودائع تُمثّل نحو 30% من التقديرات المتصلة بحجم اقتصاد الكاش لعام 2022 والبالغ وفقاً للبنك الدولي نحو 9 مليارات دولار، كما أنها تُساوي ثلاثة أضعاف حجم الكتلة النقدية المتداولة بالدولار في السوق، التي يقدّرها البنك بنحو 900 مليون دولار.
بحسب كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس، نسيب غبريل، فإن هذه الودائع «هي عبارة عن أموال للتجّار وحسابات فردية، وتوطين معاشات، وهي ليست ودائع مُجمّدة، لأن الناس لا يوافقون على تجميد أموالهم لدى المصرف من دون فوائد». فمصرف لبنان اتخذ قراراً في بداية الأزمة قضى بخفض معدّلات الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية حتى أصبحت في شهر كانون الأوّل الماضي نحو 0.03%.
لذا، لا يمكن اعتبار هذا الرقم ثابت في القطاع المصرفي اللبناني، بل قد يكون عبارة عن أموال تخرج، وأخرى تدخل عبر التحويلات إلى الخارج أو إلى الداخل. بمعنى آخر لا يمكن اعتبار هذه الودائع كمؤشّر على عودة القطاع المصرفي إلى التعافي، وخصوصاً أن جزءاً من هذه الودائع «الفريش» يعود إلى بعض أصحاب المصارف التي أودعت قصداً في محاولة لتجميل الميزانيات. كما أن هذه الأموال لا تُستخدم في القطاع المصرفي بالشكل الذي يتناسب مع دور القطاعات المصرفية الاقتصادات العالمية، أي في الإقراض.
لماذا لا يتم استخدام هذه الأموال في عمليات الإقراض والتسليف في الاقتصاد؟ من المنطقي طرح هذه النقطة وخصوصاً في غياب أي مصدر من مصادر التمويل في الاقتصاد اللبناني بعد الانهيار المصرفي الذي شهده في عام 2019. يقول غبريل إن «هناك مشكلة أساسية تتعلّق بأن جدولة القروض هي جدولة على المدى الطويل، في المقابل هذه الودائع هي عبارة عن التزامات قصيرة المدى، لأنها ليست ودائع مجمّدة».
القروض تسدّد على سنوات، في حين أن هذه الودائع قد تتحوّل إلى مطلوبات فورية في أي لحظة، وهو ما قد يؤدّي إلى اختلال في جدول الاستحقاقات (maturity mismatch). ويكمل غبريل: «هناك عائق آخر أمام إعادة حركة التسليف إلى عمل القطاع المصرفي يكمن في الخوف من تكرار المشكلة التي حدثت بعد الأزمة وهي أن نحو 80% من القروض بالعملات الأجنبية تم تسديدها بعد الأزمة بقيمة أقل من قيمتها». يُعبّر هذا الأمر عن جزء كبير من الخسارة، إذ إن قيمة القروض للقطاع الخاص التي سُدّدت عن طريق الشيكات المصرفية أو عبر تسديدها بالليرة على سعر صرف 1500 ليرة للدولار تصل إلى 30 مليار دولار. هذا الأمر يُشكّل هاجساً لدى المصارف، التي تُطالب بأن يكون هناك قانون يحميها من هذه الناحية».
اللافت أن دوران الدولارات في السوق بحسب تقديرات البنك الدولي يصل إلى 10 مرات سنوياً، بمعنى أن الكتلة النقدية المتداولة بالعملة الأجنبية والبالغة 900 مليون دولار تولّد حركة سنوية في السوق تقدّر بنحو 9 مليارات دولار، وهي سرعة أعلى بكثير من سرعة توليد الحركة المالية عبر المصارف، وبالتالي فإنّ وجود كتلة ضخمة تتجاوز 3 مليارات دولار قد تكون قادرة على توليد نشاط أكبر في سوق يعاني من أزمة تمويل بالعملة الأجنبية.
المشكلة أن المصارف ومصرف لبنان، ليسا قادرين على أداء هذا الدور الأساسي، لا بل ليسا قادرين على لعب الدور السابق للأزمة، أي تمويل الاستهلاك. العودة إلى ممارسة هذا الدور تتطلب إقرار قانون لتسوية أوضاع المصارف، مع ما يحتاجه الأمر من إجراءات متصلة بتوزيع الخسائر، وتحديد المصارف القابلة للاستمرار وتصنيف من سيخرج من السوق. هذا هو المسار الوحيد الذي يمكن أن يؤدّي إلى استقرار يُعيد حركة الإيداع إلى القطاع المصرفي ويؤمّن له السيولة اللازمة للعودة إلى دور التمويل، لكن بشكل موجّه نحو قطاعات إنتاجية معينة. وهو ما يحتاج إلى خطة موسّعة من قبل الدولة تستطيع أن تُحدد القطاعات التي يجب استهدافها وكيفية الاستفادة منها بالشكل الأفضل.