الأخبار ـ يوسف فارس
كانت الحاجة سميرة أهل، هي أول مَن التقينا قبل أن نصل إلى بوابة مستشفى «الشفاء» الخارجية. تشير هيئتها إلى أنها على مشارف الستين من العمر. «إنتِ قادرة تمشي يا أمي، خلّينا نروح»، قال أحد ابنَيها اللذَين يتولّيان مهمّة إسنادها، معاتباً إياها لأنها وافقت على إجراء مقابلة معنا، لتقاطعه بصوت غيّر الرعب سويّته: «لا بدّي أحكي، حتى يعرف العالم شو عملوا معنا المجرمين (...) 14 يوماً لم نأكل ونشرب سوى محاليل المرضى، أَطلقوا علينا الكلاب المفترسة، ونهشت أجساد الأطفال على مرأى منّا، ألقوا علينا القنابل الحارقة، أجبرونا على الخروج في منتصف الليل إلى باحة المستشفى، وأجبرونا على الجلوس بين جثامين الشهداء المتحلّلة لعشر ساعات وهم يتضاحكون ويتغامزون».
أمّا الشاب محمد عرفات الذي خرج من المستشفى مع ساعات الفجر الأولى، وقد غطّى شحار الحريق والغبار هيئته، فقال في شهادته لـ«الأخبار»: «هان علينا الموت، أصلاً مَن أكرمه الله بالشهادة في الساعات الأولى من الهجوم، نجا من أهوال ما رأينا، أقلّ ما يمكن أن أخبرك عنه، هو أنّني لم أقبل الاستسلام ولا الخروج من المبنى، ولأن الجيش جبان إلى الحدّ الذي لم يجازف فيه باقتحام المبنى الذي كنت فيه رفقة مئات من الجرحى والنازحين، بدأ بإلقاء القنابل اليدوية والحارقة تجاه الطابق الذي كنت فيه، انبطحت أرضاً وغطيت جسد ابنتي الصغيرة بجسدي، وكان السقف يحترق، وتهطل الحمم على ظهري».
عند المقبرة المؤقتة في الجهة الغربية من المستشفى، التقينا أم محمود، وهي أم لخمسة أبناء؛ تقول لـ«الأخبار»: «أنا طلّعوني من المستشفى في اليوم الثاني من الحصار، أجبرونا نمشي في حفرة كلها جثامين وطين ومياه صرف صحي، غرقنا فيها لحدّ منتصف جسدنا (...) ببحث عن ابني، ما قبل يطلع، دخلت قسم الكلى، لقيته محروق تماماً، مش عارفة صارت عظامه رماد، ولا اعتقلوه، حتى جثمان ابني الثاني إلي كان مدفون هان مش لاقياه».
أمّا أبو محمد أحمد، الذي التقيناه وهو جالس على كومة من الرمل في مقابل قسم الطوارئ والاستقبال، فقد أكد أن العدد الأكبر من الشهداء، دفنهم جنود العدو في سراديب حفروها خصّيصاً لهذا الغرض. يقول لـ«الأخبار»: «أنا شاهدت بعيني الجرافات بتدوس على جثامين الشهداء، بعض المصابين جرفوهم في الحفرة وهمّا أحياء، في كل مكان بنمشي عليه الآن في شهداء».
في قسم العناية المكثّفة، حوصر أحمد الهنا؛ هناك، تُرك العشرات من الجرحى في انتظار ساعة الأجل، إذ مُنع الأطباء من أداء مهمّتهم، وأعدم الجيش الدكتور هاني الهيثم وعدداً من الممرّضين، لأنهم حاولوا الزحف للوصول إلى مرضاهم. يقول الهنا، في شهادته لـ«الأخبار»: «نمنا برفقة جثث الشهداء، ومَن ينتظر أجله طوال أسبوعين. تعفّنت جروح المصابين. لا أحد من المرضى الذين حوصروا معنا يستطيع قضاء حاجته بمفرده. لك أن تتصوّر حجم المأساة التي أجبرونا على عيشها، هؤلاء وحوش وليسوا بشراً».