الأخبار ـ فؤاد بزي
في عام 2022 أجرت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «إسكوا»، تقييماً لاتفاقيّتَي التجارة الحرّة المبرمتين بين لبنان والاتحاد الأوروبي والبلدان العربية، خلُص إلى وجود ثلاثة أسباب أدّت إلى تكبيد لبنان خسائر في الميزان التجاري بقيمة تُجاوز الـ 250 مليار دولار في العشرين سنة الماضية.
كذلك أظهر التقييم أن لدى لبنان فرصة لإعادة هيكلة بنية رسومه الجمركية بما يتناسب مع حماية الإنتاج الوطني، وتأمين السلع للسوق المحلية المستوردة عبر «تنقيح التعريفات الجمركية المفروضة على الواردات غير التفضيلية»، إضافة إلى «فرض قيود غير جمركية وضرائب خاصة». ويفترض أيضاً أن يتخذ لبنان تدابير وقائية لتجميد أحكام محدّدة في اتفاقيات التجارة الحرّة لتقليل الاختلالات في الميزان التجاري وتحوّله الاقتصادي.استندت هذه الخلاصة إلى دراسة العجز في الميزان التجاري الذي «تفاقم، بغالبيته، بين عامَي 2006 و2014»، أي في المدة التي تزامنت مع التفكيك الجمركي، والتقدّم في إطار الاتفاقيات التجارية.
وتبيّن أنه في الفترة ما بين عامَي 2000 و2019 كان نصف العجز يأتي من المنتجات المعدنية (محروقات ومشتقاتها) ومن المنتجات الكيماوية. أما في المدة السابقة، فكان نصف العجز يأتي من أربعة مجموعات مختلفة من المنتجات (معدنية، فلزات، معدات نقل، مواد كيماوية). وقد شكّل الاتحاد الأوروبي أكبر مصدر لمعظم العجز في تجارة المنتجات رغم أن العجز في عام 2019 كان أقل مما كان عليه في عام 2000. وفي المقابل، سجّل الاختلال مع تركيا اتجاهاً معاكساً إذ أصبح العجز في عام 2019 أكبر مما كان عليه في عام 2000.
خلال فترة الدارسة الممتدة بين عامَي 2000 و2021، يمكن تقسيم العجز في الميزان التجاري تبعاً لقيمته، إلى ثلاث مراحل. الأولى بين عامَي 2000 و2006، والتي كان فيها يُراوح بين 5.5 مليارات دولار و7 مليارات دولار في الفترة ما بين عامَي 2000 و2006 بمتوسط 6.5 مليارات دولار. والثانية اعتباراً من عام 2007 حتى عام 2019، وفيها كان العجز يزداد بشكل كبير، إذ تضاعف من 8.91 مليارات دولار إلى 14.79 مليار دولار في عام 2019، ثم سنة الانهيار والتراجع في نهاية عام 2020 إلى 7.12 مليارات دولار قبل أن يعاود الارتفاع في السنة التالية إلى 11.74 مليار دولار ثم إلى 15 مليار دولار.
ما حصل في فترة ما بين مطلع الألفية حتى الانهيار، يعبّر عن السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة، وعن النموذج المالي وهيمنته على تمويل استهلاك السلع المستوردة. تطلّب هذا النموذج انخراط لبنان في اتفاقيات تجارية مجحفة بحق اقتصاده ومجتمعه. وبحسب «إسكوا»، فإنّ هناك ثلاثة أسباب أدّت إلى هذا العجز الكبير في الميزان التجاري:
- الاتفاقيات التجارية تُعنى حصراً بالتدابير الحدودية، لكنها تمنح السلع الأجنبية المستوردة معاملةً وطنيةً غير تمييزية، أي إنها تشجّع إغراق السوق المحلية بالسلع المستوردة الأرخص من مثيلاتها المنتجة محلياً.
- يعجز لبنان عن توجيه صادراته إلى أسواقه التفضيلية بسبب محدودية الإنتاج الوطني وكثرة التدابير الجمركية وتدهور القدرة التنافسية.
- اتبع لبنان منذ منتصف التسعينيات نظاماً تجارياً مفتوحاً أحادي الجانب. بموجبه سمحت الحكومة بإغراق السوق المحلية بالسلع الأجنبية المستوردة من دون أدنى إجراءات الحماية، إذ تضاءلت الفجوة بين الرسوم الجمركية على الواردات التفضيلية وغير التفضيلية (أي صارت تقترب من التساوي ضمن مستويات منخفضة).
وفقاً لتقييم «إسكوا»، فإن نتيجة اتفاقتَي التجارة مع الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية ليست واحدة. فمقابل العجز التجاري الدائم مع الاتحاد الأوروبي، سجّلت التجارة مع منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى (PAFTA) فائضاً في معظم المنتجات. ودول الاتحاد الأوروبي شكّلت أكبر مورّد تجاري للبنان، إذ وصل عدد المنتجات المستوردة منها إلى 3774 منتجاً. هكذا ازداد العجز في الميزان التجاري ليبلغ مداه الأقصى في عام 2013 بقيمة 17.6 مليار دولار. علماً أنّ التبادل التجاري بين لبنان ودول الاتحاد بلغ ذروته خلال هذه المدّة.
تقييم «إسكوا» للاتفاقيات التجارية في لبنان: ضرورة إعادة هيكلة الرسوم الجمركية
لكن المشكلة التي ظهرت بالعجز الهائل الناتج من التجارة مع الاتحاد الأوروبي، تكرّرت في اتفاقيات أخرى بعضها ثنائي مع الاتفاق التجاري مع تركيا. «إسكوا» رصدت أيضاً هذا الأمر؛ خلال العشرين سنة الواقعة بين عامَي 2000 و2020، تمكّنت تركيا من تعزيز حضورها التجاري في السوق اللبنانية، إذ زاد العجز التجاري للبنان مع تركيا التي أدخلت إلى لبنان 1267 سلعة لم تكن تصدّرها إليه في عام 2000.
بالاستناد إلى تحليل تأثير الاتفاقيات التجارية الأوروبية والعربية والتركية وسواها، على الميزان التجاري للبنان، تخلُص «إسكوا» إلى ضرورة إعادة النظر بالسياسة التجارية الخارجية، ولا سيما أن لبنان لم يصبح بعد عضواً في منظمة التجارة العالمية فيما يعاني من أزمة اقتصادية حادة. لذا، هناك فرصة متاحة لتعليق العمل ببعض أحكام الاتفاقيات التجارية للتخفيف من الاختلال في الميزان التجاري، وتنقيح ورسم هيكل تعريفات جمركية جديد تصيب الواردات غير التفضيلية أكثر من الواردات التفضيلية مع مراعاة 6 مبادئ: تيسير الأمن الغذائي والتنمية الريفية، تعزيز القدرة التنافسية الدولية، استحداث فرص العمل، تقليل اختلالات الميزان التجاري، وتيسير التحوّل الاقتصادي، وتقليل تكاليف التكيّف.