الأخبار ـ ندى أيوب
في طريقها إلى تمديد ولاية المجالس البلدية عاماً إضافياً، تسجّل السلطة السياسية «سكوراً» جديداً في درجة استغفال عقول اللبنانيين، وبيعهم الأوهام من كيسهم، إذ تتذرّع، في واحدٍ من الأسباب الموجبة المُدرجة في اقتراح قانون التمديد، بـ«تجنّب الفراغ في البلديات حرصاً على مصالح المواطنين»، بما يوحي وكأن المجالس البلدية تعيش عصرها الذهبي على صعيد انتظام العمل وتقديم الخدمات. في حين أنّ ما ستنتهي إليه جلسة مجلس النواب اليوم - إذا ما مرّ الاقتراح - هو حرفياً «تمديد الفراغ» وليس أي شيء آخر. هو فراغٌ بلديّاتي خدماتي أتى كنتيجة طبيعية لإفلاس المجالس المُعلن منذ ما قبل التمديد الأول لها عام 2022، ويلمسه كل مقيمٍ على امتداد البلد من شماله إلى جنوبه، وتطاول آثاره حتى أولئك القاطنين ضمن نطاق بلدياتٍ تُصنّف بـ«الغنيّة». ينقسم الأفرقاء السياسيون حول استحقاق الانتخابات البلدية بين فريقٍ أعدّ العدّة لتأجيله، وآخر تحمّس لخوض معركة إسقاط التمديد.
فعلق الجميع - كالعادة - في صندوق الكيدية السياسية الفارغة، فلا التمديد سيضمن حصول المكلّفين على الخدمات البلدية بالشكل السليم، ولا انتخاب مجالس جديدة مفلسة كسابقاتها سيحدث تغييراً في مستوى الأداء البلدي. في حين أنّ مقاربة الملف، لكي تكون مجدية، يُفترض أن تبدأ من البحث في كيفية تمكين البلديات وزيادة إيراداتها، بدلاً من المزايدات حول مجالس يقتصر حضورها شكلياً من خلال المقارّ والقصور البلدية.فمنذ تدهور الوضع الاقتصادي عام 2019، دخلت المجالس البلدية في صراع من أجل البقاء وسط تراجع نسبة وقيمة إيراداتها المستوفاة بالليرة في وقتٍ خسرت فيه العملة الوطنية قيمتها، «ما عكس خسارةً في قيمة الإيرادات البلدية التي تراوح بين 60 و70%»، بحسب المعنيين بالشؤون المالية في البلديات. من دون إغفال الجانب المتعلّق بانعدام قدرة موظفي القطاع العام وغيرهم من محدودي الدخل على سداد الرسوم البلدية، مفضّلين تأمين فواتير الاتصالات والإنترنت والمولّدات وغيرها... التي أكلت الحصة الكبرى من رواتبهم، وانقطاعها ينعكس بشكلٍ مباشر على حياتهم اليومية، بخلاف أثر الخدمات البلدية.
تُركت المجالس لمصيرها حتى عام 2021، حين بدأت الرسوم ترتفع تدريجياً، «لكنها بقيت تحت السقف المطلوب لتسيير عمل البلديات بالتزامن مع تضخّم المصاريف التشغيلية من رواتب الموظفين وأكلاف المحروقات واللوازم المكتبية...» بحسب رئيس بلدية الغبيري معن الخليل. وصل حال إحدى البلديات الكبيرة، إلى «طلب التبرّع بإطاراتٍ لسيارات البلدية من ميسوري المنطقة ممن يقصدون المجلس طالبين بعض الخدمات». بالموازاة «بحثت بلدية أخرى عن هبة لتجديد زيّ العاملين في الشرطة البلدية».
ومن دون عناء التفكير في خطةٍ تقشّفية، فرض الواقع نفسه على البلديات الكبيرة والمتوسّطة في بيروت وضواحيها، كما في إحدى بلديات المتن «التي جمّدت تنفيذ مشاريع إنمائية مثل بناء مدرسة، وإنشاء موقف سيارات وجسر مشاة ومشاريع تزفيت طرقاتٍ عامة وفرعية واستبدال الإنارة العادية بلمبات (led) مخصّصة لتوفير الطاقة الكهربائية. فضلاً عن خفض أعداد موظفي الشرطة البلدية، والتوقّف عن دعم النوادي والجمعيات الأهلية وتنظيم الدورات التأهيلية في مجالاتٍ شتّى». في المقابل، ركّزت المجالس البلدية على صيانة ما هو ضروري وأساسي، كترقيع الحُفَر بطريقة مماثلة لترقيع أهل النظام. وأدرجت في أعلى سلّم المهام، تنظيف مجاري الصرف الصحي، وريّ الأشجار المزروعة، من دون «التورّط» في عمليات زرع جديدة. وبالانتقال إلى القرى النائية، تصبح الأحوال أكثر سوءاً. هناك، تتكفّل الجهات الحزبية أو متموّلون بكلفة رفع النفايات، وبشراء مولّدات خاصة وتشغيلها لقاء دفع المستفيد منها اشتراكات شهرية مدعومة إلى حدٍّ ما. ويؤكّد أكثر من رئيس بلدية في منطقتي البقاع والجنوب أنّ «الاعتماد هو على المنظمات الدولية العاملة في مجال الإنماء، وتلك المهتمة بملف النازحين السوريين، والتي تطلق بالشراكة مع البلديات مشاريع دعمٍ للنازحين تستفيد منها البلديات».
تعتاش بعض البلديات من مشاريع تنفذها الجهات المانحة لمصلحة النازحين
بشكلٍ رئيسي تعتمد البلديات على الجباية لسداد مصاريفها التشغيلية، فيما لم تتقاضَ مُستحقاتها من قطاع الخلوي إلا مرة وحيدة عن عام 2017. وعندما تعطف عليها السلطة السياسية، وتفرج عن مستحقاتها للسنوات من 2018 حتى 2022، ستتقاضى مبالغ مالية لم تعد ذات قيمة، إذ ستُحتسب على سعر 1500 ليرة انطلاقاً مما كانت عليه أسعار الاتصالات الخلوية في ذلك الوقت. أما عائدات الصندوق البلدي المستقل، فهي عادةً ما تأتي متأخرةً قرابة عامين، ويُحسم حوالي 50% منها لسداد كلفة رفع النفايات الملزّمة لشركة خاصة.
يتقاطع معظم رؤساء البلديات المتعثّرة عند نقطة مفادها، أنّ خيار الاستمرار في المهام ترف لا يتمتعون به. البعض لديه حساباته المرتبطة بالتزامه حيال أهل بلدته، فيحكم المعيار الشخصي والمعنوي على بقائه. البعض الآخر، مُلزم بفعل الانتماء الحزبي الذي أوصله إلى رئاسة المجلس البلدي، أن يمضي في تمثيل حزبه وأداء المهام المكلّف بها. وفيما الغالبية غير ممنونة لوضعها في الواجهة في مثل هذا الظرف، ستكون أمورها أفضل، لو فكّرت السلطة في تحسين إيراداتها عبر تعديلات على رسومٍ لا تتعدى الـ20 ألفاً كالرسم على أندية القمار، ورسم الذبيحة، ورسم تخزين المحروقات في محطات الوقود... والنماذج كثيرة لقوانين متّصلة بالرسوم البلدية بات تعديلها أمراً مُلحاً.