الأخبار ـ فؤاد بزي
لم تتوقف حركة استيراد الدراجات النارية (التي تُعرف بالـ«موتسيكل») حتى في أحلك ساعات الانهيار. خلال 10 سنوات، أي منذ عام 2014 ولغاية نهاية عام 2023، استورد لبنان 626 ألف دراجة نارية وكهربائية بقيمة إجمالية بلغت 370 مليون دولار. رغم هذا العدد الهائل من الاستيراد، إلا أن عدد الدراجات المسجّلة لا يتخطى 290 ألف دراجة، وفق أرقام وزارة الداخلية لعام 2021، أي ما نسبته 46% من عدد الدراجات المستوردة في السنوات العشر الماضية.
في المحصّلة، الطرقات كما السوق، يجتاحها طوفان من الدراجات النارية غالبيتها بلا تسجيل ومالكوها يلعبون لعبة «القط والفأر» مع كلّ إطلالة أمنية للدولة على رعاياها، أو ما يُعرف بـ«يوم أمني».اختيار الدراجة من قبل الطبقات المتوسطة والمحدودة الدخل، له صلة بكونها مركبة صغيرة ذات مصروف وقود متدنّ، لذا هي الخيار الأول للتنقل لعدد كبير من المقيمين (لبنانيون وأجانب)، ولا سيّما في المدن الكبرى وضواحيها. لكنّ الأزمة لم تتعلق يوماً بهذه الطبقات وسلوكها بمقدار ما كان يتاح لها تطوير علاقتها السلبية مع وجود «الدولة». والمشكلة تزداد سوءاً حين يظهر أن مساهمة الدراجات النارية في الاقتصاد ليست بسيطة، إذ باتت تعتمد عليها الكثير من الأعمال، في مقابل أن طفرة الاستيراد تزيد من نزف الدولارات من الداخل نحو الخارج.
واعتماد أصحاب الدخل المحدود على الدراجات النارية للتنقل واضح من أرقام الاستيراد. بحسب إحصاءات الجمارك، فإن الدراجات تُقسم إلى فئات ربطاً بحجم المحرّك ونوعيته (وقود أو كهرباء). والفئة المستوردة بكميات كبيرة هي ذات المحرّك الصغير الذي لا يزيد حجمه على «250 س س» بنسبة تصل إلى 90% من مجمل الاستيراد السنوي. في عام 2016 استورد لبنان 52 ألف دراجة من هذه الفئة، بسعر استيراد وسطي يبلغ 443 دولاراً للدراجة الواحدة، ثم ازداد الاستيراد في عام 2023 إلى 99 ألف دراجة ومعه ارتفع سعر الاستيراد الوسطي لهذه الفئة إلى 663 دولاراً.
أما السلع الفخمة من الدراجات، ذات المحرّكات الكبيرة التي يصل حجمها إلى «800 س س» فلا تغيب عن السوق، إذ بلغت قيمة الاستيراد الإجمالية لهذه الفئة نحو 2.5 مليون دولار في السنوات العشر الماضية. ففي عام 2016 دخل إلى لبنان 283 دراجة من هذه الفئة بسعر استيراد وسطي يبلغ 13 ألف دولار، وفي عام 2023 انخفض عدد المستورد من هذه الفئة إلى 140 دراجة بسعر وسطي يبلغ 17 ألف دولار للدراجة.
ظهرت تأثيرات الأزمة الاقتصادية على حركة استيراد الدراجات ونوعيتها. ففي عام 2020 استورد لبنان دراجات بقيمة 4 ملايين دولار، أي 12% من المعدل السنوي للسنوات الخمس السابقة (2014-2019) والذي بلغ 33 مليون دولار. لكن في السنوات التالية، أي بين 2021 و2023 سجّلت السوق طفرة استيراد فاقت هذا المعدّل، إذ استورد لبنان بما قيمته 185 مليون دولار في ثلاث سنوات بمعدل سنوي 59.3 مليون دولار. بالنسبة إلى استيراد الدراجات، فإن عام الأزمة هو في عام 2020، أما في عام 2021 فقد استورد لبنان بما قيمته 19 مليون دولار، ثمّ تضاعف الاستيراد أكثر من 4 مرات ليبلغ 84 مليون دولار في عام 2022. ومن جهة ثانية، ظهرت بعد عام 2017 الدراجات الكهربائية التي حجزت لنفسها حصةً سنويةً من الاستيراد راوحت بين 2.5%، في أعوام ما قبل الأزمة، و4% بعد عام 2020. ويُذكر هنا أنّ سعر الدراجة الكهربائية تضاعف مرتين في الفترات نفسها من 456 دولاراً للدراجة في عام 2017 إلى 830 دولاراً في عام 2022، ثم انخفض في عام 2023 إلى 570 دولاراً بسبب انخفاض سعر البطاريات عالمياً.
«سيول» الدراجات النارية في لبنان هي أزمة كل الفصول في لبنان. الدولة لها نصيب وافر منها، سواء في غياب النقل العام، فوضى السير، الفلتان الأمني... ثمة الكثير من العوامل التي تجعل من الدراجات أزمة دائمة، إنما اللافت أن «الدولة» تفتح المجال أمام الاستيراد العشوائي بلا أهداف اقتصادية واجتماعية برسم جمركي يبلغ 5% على ثمن الاستيراد، ثم ترفع رسم التسجيل لتحقيق أكبر قدر ممكن من العوائد المالية بالعملة المحلية، تكاد تساوي ثمن مبيع الدراجة في السوق، وترسم خطّة لقمع جزء من الأزمة التي تنتج بفعل غيابها عن المشهد.
رفع قيمة التسجيل يصعّب المهمّة على الشاري. إلا أن وزير الداخلية السابق مروان شربل سبق أن اقترح «خفض تسجيل الدراجات الصغيرة ذات المحرّك الذي تقل سعته عن 250 س س»، لكن تبيّن أن «الدولة تسهّل عمليات التهرّب الجمركي بسماحها بإدخال قطع الدراجات النارية، وتسجيلها على أنّها خردة، ومن ثمّ يقوم التجار بتركيبها في لبنان وبيعها كدراجات مستعملة، ما يمنع تسجيلها نهائياً كونها غير مجمركة» يقول شربل. ويشير إلى أن الدولة «لا تستطيع منع الاستيراد بينما بإمكانها تنظيمه». غير أن هذا الأمر لا يحصل، إذ «ما يجري على الأرض معاكس تماماً، بل هناك زيادة في الفوضى تمثّلت بإدخال ما يُعرف بالتوك توك وتسجيله على أنّه دراجة، علماً أنّ الدراجة لا تُستخدم للنقل العام أو كسيارة أجرة» وفق شربل. لذا، زيادة عدد الأيام الأمنية لن تنفع، بل إن نتائجها تكمن في تقليص عدد الدراجات في الشوارع ونقلها إلى حفر الحجز قبل أن يُتلف ما هو غير مجمرك منها ويباع عدد قليل في المزادات العلنية.