الأخبار ـ نعمه نعمه
في دراسة نشرها البنك الدولي، أخيراً، عن الفقر والمساواة، أشار إلى أن 4 من أصل كل 5 أطفال من العائلات الفقيرة في لبنان يلتحقون بالمدارس الرسمية، فيما يقصد الخامس مدرسة خاصة مجانية، وأن الصعوبات الاقتصادية وكلفة النقل تعدّ أسباباً رئيسة في زيادة نسب التسرّب المدرسي التي قدّرتها الدراسة بـ 3.4% من الأطفال فقط، وهو رقم يقلّ كثيراً عن الأعداد الفعلية للمتسرّبين.
إلا أن ما وصفه التقرير بـ«نسبة التسرّب المدرسي»، وهي، في الواقع، نسبة متدنّية جداً مقارنة بتداعيات الأزمة، لا يمثل عدد المتسرّبين، وإنما عدد التلامذة غير الملتحقين في السنة الدراسية الأولى، وخصوصاً من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين ليس لهم مكان في المدرسة الرسمية، ولا سيما في المناطق.
وحتى اليوم، لا توجد دراسة ميدانية حول التسرّب المدرسي في لبنان، ومعظم الأرقام المطروحة غير دقيقة، إذ هناك مؤشرات توضح أعداد المتسرّبين الذين يتركون المدارس قبل الصف التاسع الأساسي (البريفيه) أو في نهاية مرحلة التعليم الإلزامي.
وذكرت الدراسة أن أعداد الفقراء زادت بمعدل 3 أضعاف عما كانت عليه قبل عشر سنوات، وأن معدلات الفقر في لبنان تتوزع بصورة متفاوتة بين المحافظات وفق الآتي: 62% في عكار، و52% في الشمال و12% في بيروت، علماً أنها لم تشمل محافظات البقاع وجبل لبنان وبعلبك - الهرمل والجنوب والنبطية.
تضم محافظتا عكار والشمال نحو 20% من تعداد السكان المقيمين (ما عدا اللاجئين والمقيمين في تجمعات سكانية مثل الخيم أو البيوت الزراعية) البالغ عددهم 4.8 ملايين نسمة، بحسب دراسة لدائرة الإحصاء المركزي عام 2020، منهم نحو 80% لبنانيون (نحو 4 ملايين). وتشكل نسب الولادات في عكار والشمال الأعلى بين باقي المحافظات، حيث يتجاوز عدد أفراد العائلة الواحدة في المحافظتين المعدل الوسطي أي 3.8 أفراد ليصل إلى 4.7 في قضاء المنية والضنية، و4.8 في عكار، فيما نسب الولادات هي الأعلى أيضاً، إذ تتجاوز بثلاث أو أربع نقاط المتوسط الوطني وهو 16 في الألف. وتؤكد أرقام الولادات هذه المعطيات، فقد أحصت «الدولية للمعلومات» الولادات استنادا إلى أرقام المديرية العامة للأحوال الشخصية بين 2009 و2021، وتبيّن أنها تراوح بين 86 و96 ألفاً مع تدنٍٍّ ملحوظ بعد عام 2020 وصل إلى أقلّ من 70 ألفاً.
وكمؤشر إضافي للفقر في المحافظتين، فإنّ نسبة الملتحقين بالتعليم الرسمي توازي نسبة الملتحقين بالتعليم الخاص المجاني وغير المجاني، بينما المتوسط الوطني هو 30% للرسمي، و70% للخاص.
وفي دراسة سابقة لمركز الدراسات اللبنانية حول كلفة التعليم في لبنان، تبيّن أن التلامذة اللبنانيين الـ 86 ألفًا الملتحقين بالصف الأول في عام 2011 لا يصل منهم إلى الصف السادس عام 2016 أكثر من 68 ألفًا ويستمر التناقص متسارعاً حتى التاسع، أي التعليم الإلزامي (نحو 57 ألفاً) فالبكالوريا (50 ألفاً)، علماً أن التسرب المدرسي يبدأ في الصف الثالث بشكل ملحوظ لدى الفقراء تحديداً، إذ يتناقص العدد نحو 10 آلاف تلميذ دفعة واحدة. هذا التسرب تؤكده تقارير البنك الدولي (2016) وتربطه بالدخل، إذ إن 40% من الفقراء فقط يصلون إلى التاسع، وكون نسب الفقراء هي الأعلى في عكار والشمال فإنّ من المتوقّع أن ترتفع نسب المتسرّبين إلى أكثر من 50%.
في ترجمة رقمية لهذه النسب مع تزايد أعداد الفقراء بهذا الشكل المطّرد في محافظتَي الشمال وعكار، نقدّر أن غالبية الفقراء من الأطفال لن يحصّلوا تعليمهم الإلزامي، ويبلغ عددهم أكثر من نصف أطفال عكار والشمال (أي 60 ألفاً)، وهم سيتسرّبون من المدارس لأسباب اقتصادية عدا عن الأسباب الأكاديمية التي قد تلعب دوراً في رفع الأعداد والنسب. وإذا أضفنا معطيات الفاقد التعليمي والتأخّر المدرسي، فإن معظم المتسرّبين قبل الصف السابع سيصبحون أميّين أو شبه أميّين.
الدولة لم تقدم حلولاً لتعليم الفقراء والمهمّشين، فكل عام دراسي يمضي من دون تعليم يشكل خسارة مالية للمواطن والدولة، كما لم تلحظ مشاريع لتحسين البنى التحتية المدرسية في هاتين المحافظتين، وهما من أكثر المحافظات تضررًا من الإهمال والأزمة. فهل ستعمل الدولة للتعويض أو إيجاد نظام تعليمي يعيد المتسرّبين إلى التعليم أو التدريب لتحسين دخلهم ودخل عائلاتهم؟
لقد لحظ «إعلان إنشيون» عام 2015 (التعليم بحلول العام 2030) الذي شارك فيه لبنان الرسمي كمسار واستراتيجية حالات الطوارئ والحالات الخاصة في «النهوج» الاستراتيجية وأكد على ضرورة اتخاذ تدابير خاصة وضرورة تحصيل مستويات تعليمية وكفاءات ضرورية للقراءة والحساب، ما يعزز مستويات الدخل للأفراد. فالتسرب من التعليم في المرحلة الابتدائية معطوفاً على الفاقد التعليمي سيجعل من هؤلاء الفقراء أميّين، ما يستدعي تدخلاً وبرنامجاً طارئاً للتعويض والحدّ من مسار التدهور الاقتصادي للعائلات الفقيرة.
لبنان وقّع على برنامج التعليم التحويلي و«إعلان إنشيون» وعشرات البرامج لإنقاذ التعليم، لكنه لا يزال يفتقر إلى أبسط القراءات والأفعال للحدّ من التدهور في قطاع التعليم، وبالتالي الاقتصاد، فكلفة ترميم ما فقده التعليم اليوم أكبر من كلفة إنقاذه غداً، كما لا يزال البنك الدولي وجهات مانحة أخرى تنشر تقارير سنوية تعرض فيها سنة بعد أخرى شريط تدهور التعليم، لكنها تستمر في تمويل نهج وزارة التربية التدميري للتعليم من دون تقييم النتائج الحالية والمستقبلية.