الأخبار ـ محمد وهبة
ما الذي يجعل من السندات الدولية بعائد صفر، أداة «مثالية»، كما يُروّج لها، لمعالجة القسم الأكبر من الخسائر في القطاع المالي؟ موجب السؤال أن صندوق النقد الدولي وافق بشكل مبدئي على الفكرة مشترطاً أن تكون ملكية هذه السندات مباشرة للمودعين لا أن تدار بواسطة المصارف أو مصرف لبنان أو أي جهة أخرى. كما أن القوى السياسية في لبنان، إلى جانب حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، تصرّ على هذا الطرح باعتباره يمثّل علاجاً لجزء أساسي مما يسمّونه «الفجوة المالية»، أي الخسائر المالية المتراكمة في بنية القطاع المالي في لبنان. البحث في الإجابة يقود مباشرة نحو أمر آخر يبدو أن هذه القوى لا تدركه، أو تحاول الالتفاف عليه، وهو أن جوهر الأزمة في لبنان قائم على الحاجة الملحّة إلى السيولة بالعملة الأجنبية التي تبدّدت على أيدي مصرف لبنان والحكومات المتعاقبة ولم يبقَ لدينا من مخزون هذه السيولة سوى مبلغ يصل إلى 10 مليارات دولار بحدّه الأقصى، ما يعني أن هذه السندات هو بمنزلة استنزاف إضافي للسيولة بالعملة الأجنبية، ما يثير الكثير من الشكوك حول هذا الخيار.
السندات الدولية المقترح شراؤها في سياق «تعويض» المودعين وشطب قسم من الودائع من ميزانيات المصارف هي عمليّة مركّبة تنطوي على الآتي: هناك جهة لبنانية، قد تكون مصرف لبنان أو المصارف التجارية أو الخزينة اللبنانية، أو أي جهة أخرى لديها التمويل، ستشتري سندات ذات عائد يساوي صفر في المئة وتستحق بعد مدة طويلة من الزمن. حجم التمويل يتقرّر بناء على الأهداف والأسعار. فإذا كان الهدف شطب ودائع بقيمة 30 مليار، فإن العوامل التي تتحكّم في الوصول إلى هذا المبلغ هي: سعر السند ومدّة استحقاقه. ووفقاً للمعطيات الفعلية، فإن سعر السند اليوم يبلغ 18 سنتاً، لذا إذا تقرّر استرداد الـ30 مليار دولار، فإن الأمر يتطلّب 25 سنة وشراء سندات بقيمة 5 مليارات دولار. إذا كان الهدف استرداد مبلغ أكبر، فيتم تعديل قيمة التمويل بالتناسب مع تعديل مدة الاستحقاق. ويحتسب سعر السند عند الاستحقاق على أساس أسعار الفائدة العالمية التي تختلف بين الجهات المصدرة للسند ربطاً بالتصنيف الائتماني لكلّ منها. فالجهة التي تصدر سندات والمصنّفة (AAA) لديها فائدة أقلّ من جهة ثانية لديها تصنيف (AA). أميركا مثلاً، مصنّفة (AAA) وفائدة السندات التي تصدرها باستحقاق بعد 30 سنة يبلغ 4.7%، بينما سندات قطر المصنّفة (AA) تحصل على فائدة 5.5%. صحيح أن السند اسمه «زيرو كوبون» أو «عائد صفر»، إلا أن الاسم يعبّر عن واقع أن الجهة المصدرة لن تدفع عوائد نصف سنوية أو سنوية عليه، بل ستراكم الفائدة حتى الاستحقاق، أي إن أسعار الفائدة هي أساس في الاحتساب، ولو أن السند لا يحقّق عوائد دورية، إنما يحقّق فوائد متراكمة.
ليس مهماً من هي الجهة التي ستموّل شراء السند، فالأهم حقّ إدارته والمتاجرة به. وفي هذا السياق، يبدو أن هناك اتفاقاً على أن من مصلحة مصرف لبنان والمصارف الساعية إلى «تنظيف» ميزانياتها من الالتزامات، أن تنقل الودائع، وبالتالي السندات التي تغطّيها، إلى خارج هذه الميزانيات سواء في اتجاه صندوق استرداد الودائع أو أي جهة أخرى يتفق عليها. وصندوق النقد الدولي يفضل خيار حصول المودع على هذا الحقّ، ما يعني أنه بإتمام عملية الشراء، وبمعزل عن هوية الجهة التي ستموّلها، سيحصل المودع على حريّة المتاجرة بالسند بيعاً وشراء. ولهذا الأمر قواعد في السوق المالية، فإذا انخفضت أسعار الفائدة ارتفع سعر السند، وكلما اقتربت مدّة استحقاقه كلما زاد سعره. ولهذا السند قابلية مرتفعة على التسييل، بينما ستنتقل مخاطره الائتمانية من المخاطر المحلية المرتبطة بتصنيف لبنان «مفلس» إلى دول أو شركات كبرى أصدرت هذا السند بتصنيف مرتفع مثل الـ(AA).
يمكن القول إن سندات الـ«زيرو كوبون» هي أداة تقنية تعدّ بمنزلة «مخرج شعبوي» لكل من القوى السياسية والمصارف ومصرف لبنان التي تواجه الأزمة منذ خمس سنوات بـ«الإنكار». فهي سوّقت بأنها ستردّ الودائع «المقدّسة»، وزادت حدّة التوتّر عندما جرى تصنيف الودائع بين مؤهلة وغير مؤهلة، وخفض سقف التعويض على الوديعة من 500 ألف دولار إلى 100 ألف دولار للودائع المؤهلة و36 ألف دولار للودائع غير المؤهلة... بهذا المعنى، فإن سندات الـ«زيرو كوبون» تتيح للقوى السياسية تقديم وعد محدّد بدفع الوديعة، ولو بعد 25 سنة أو 30 سنة، بدلاً من أن يترتب على هذه القوى مصارحة الجمهور بأنها ستشطب الودائع وتخضعها لهيركات. لا بل سيتاح لهؤلاء تسييل السندات بسعر السوق ساعة يشاؤون.
أداة «شعبوية»
ينقل المطلعون على الاقتراح الذي طرحته المصرفية كارول عياط على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، أنها لم تقدّم علاجاً للأزمة، بل اقترحت «أداة» تقنية للتعامل مع جزء من الخسائر. عياط وضعت بين يدي المسؤولين أداة «شعبوية» تفيد المودع أيضاً. وهذه الأدوات مستوحاة من استخدام سابق لها في الأزمة المالية العالمية التي انفجرت في 2008. وهي لا يمكن إلا أن تكون جزءاً يمكن أن يتكامل مع خطّة واسعة في إطار توزيع الخسائر والتعافي. هذه الأداة لا تكفي إلا للمساعدة على حسم جدل اندلع بين قوى سياسية ومصرفية وأصحاب مصالح، على مسألة توزيع الخسائر التي تناولت بشكل أساسي شطب الودائع في النسخة الأولى من خطّة التعافي، ثم جرى تعديلها في النسخ التالية لتصبح في النسخة الأخيرة صندوق استرداد الودائع. محور الجدل أن الصندوق أو آلية أخرى تزعم أنها «أمل» بدفع الوديعة لا شطبها.
وبالنسبة إلى المصارف ومصرف لبنان، فأي أداة تزيل من ميزانياتهم مبلغ يفوق الـ 30 مليار دولار «بشحطة قلم» هي أداة مريحة، وكان الصندوق هو الأداة الأولى، ثم أتت الأداة الثانية، أي السندات الدولية التي تعمل بالاتجاهين؛ فإذا نقلت الودائع إلى خارج المصارف، أزيلت أعباؤها من ميزانيات المصارف ومصرف لبنان، أما إذا اتفق المودع والمصرف على أن يحصل الأخير على حقّ إدارة هذا السند والتحكم فيه، فسيتم تسجيله في الميزانيات وفقاً للقواعد التي تتيح للمصرف تسجيله بكامل قيمته يوم الاستحقاق، وبالتالي ستحصل المصارف على توازن في ميزانياتها، على الأقل في الشق الذي يعادل 30 مليار دولار.
وبالمعنى الاجتماعي، ستكون القوى السياسية والمصارف أكثر المستفيدين من هذه الأداة لأنها ستزيح عنهم أعباء «شطب» الودائع أو إخضاعها لهيركات، ولا سيما الودائع التي تفوق مليون دولار. لكن المشكلة التي طرأت، بالنسبة إلى معدّي الاقتراح ومروّجيه، هي مشكلة التمويل. فعندما طرح منصوري تمويلاً بقيمة إجمالية تبلغ 8 مليارات دولار مناصفة بين مصرف لبنان والمصارف، دبّ الرُعب في المصرفيين، وخصوصاً المصارف الخمسة التي تسوّق بأنها «المصارف الناجية» (عوده، بلوم، بيبلوس، ميد، اللبناني الفرنسي) التي ترغب في تسديد الـ100 ألف دولار للمودع ثم المضي قدماً نحو استعادة عملها في السوق.