الأخبار ـ نزار نمر
بداية الأسبوع الماضي، أزاحت «مؤسّسة سمير قصير» الستار عن مشروع ضخم عبارة عن نسخة مُحدّثة من «مرصد ملكية الإعلام في لبنان» الذي كان قد أُطلق قبل خمس سنوات. وبحسب بيان للمؤسّسة، أتى المشروع الجديد «بالشراكة مع Global Media Registry وبدعم من وزارة الخارجية الهولندية»، في «محاولة لتسليط الضوء على هيكلية ملكية المشهد الإعلامي، بناءً على عيّنة مكوّنة من 37 وسيلة إعلامية في قطاعات التلفزيون والإذاعة والطباعة والإنترنت.
ويتضمّن قاعدة بيانات للمالكين الأفراد والشركات العاملة في قطاع الإعلام، ويُقدِّم تحليلاً حول تركيز السوق والتعدّدية والإطار التنظيمي». ووفقاً للمدير التنفيذي للمؤسّسة أيمن مهنّا، فإنّ قرار تحديث المؤشّر «يأتي بعد التغيّرات الجذرية التي عصفت بالبلد، إضافةً إلى إغلاق عدد من الوسائل الإعلامية، والانتخابات النيابية التي أجريت عام 2022 وكان واضحاً مدى تأثير وسائل الإعلام فيها، وما أظهرته من ترابط مصالح سياسية وإعلامية». أضف إلى ذلك «ما يحدث على الصعيد العالمي كعصر التضليل الإعلامي والأخبار الكاذبة، وظهور الذكاء الاصطناعي».
صحيح أنّ هذه المبادرة خطوة مهمّة في رحلة الألف ميل نحو المساءلة العامّة وتشجيع الشفافية، حيث تأتي في سياق تحدّيات متزايدة تواجه حرّية الصحافة واستقلاليّتها في العالم عموماً والبلد بشكل خاصّ، ولكنّها لا تحقّق النتيجة المتوخّاة، إذ تقرّ المؤسّسة بعدم قدرتها على الوصول إلى المعلومات الكاملة حول الملكية بسبب صعوبات شتّى أبرزها بيانات الملكية غير المتناسقة وغير المحدَّثة، بالإضافة إلى كون المبادرة نفسها مموّلة من جهات خارجية ذات مصالح في لبنان ولديها استفادة محتملة من مشروع مماثل، ولا سيّما الخارجية الهولندية التي تموّل بعض الوسائل الإعلامية قيد التحليل، ولو أنّ «المؤسّسة» تقرّ بتلك «بشفافية». الأمر انعكس على طريقة تناول الوسائل الإعلامية وبعض الشخصيّات، إذ تأخذ «مؤسّسة سمير قصير» طرفاً واضحاً مناهضاً للمقاومة في لبنان، معتمدةً ضمناً تعابير الإمبراطورية في وصف «الأخبار».
في لمحة على النتائج التي يكشفها التحليل، يتّضح أن معظم وسائل الإعلام في لبنان تتجاهل غالباً الكشف عن مصادر تمويلها. ورغم وجود معظم بيانات مالكي الوسائل الإعلامية في السجلّ التجاري (بنسبة 68.5%)، إلا أنّ التحليل يشير إلى أنّ «جودة ملفّات تعريف الشركة الرسمية سيّئة، وكانت البيانات في كثير من الأحيان قديمة بشكل واضح، مع عدم تسجيل التغييرات في الملكية، رغم جهود البحث التي بذلها الباحثون في «مؤسّسة سمير قصير»، وشركاؤنا في منظّمة «نواة» للمبادرة القانونية»، كما جاء في بيان المؤسّسة. وبحسبها، فإنّ «90% تقريباً من وسائل الإعلام تُصرّ على إخفاء مصادر تمويلها، التي نادراً ما ترتبط بالإعلانات أو عائدات الإنتاج.
أربع وسائل إعلام فقط (11% من العيّنة) أظهرت شفافية في الكشف عن ملكيّتها وتمويلها: «إذاعة لبنان» المملوكة للدولة، والصحيفة المطبوعة والإلكترونية «لوريان لو جور»، والوسيلتان الإعلاميّتان المستقلّتان الرقميّتان «درج ميديا» و«ميغافون» (بحسب وصف المؤسّسة)». أحصى التحليل «عشر صحف يومية مملوكة للقطاع الخاصّ بثلاث لغات وأكثر من 1500 دورية أسبوعية وشهرية» مستنتجاً أنّ لبنان يصدِر «حوالى نصف الدوريات المنتجة في منطقة الشرق الأوسط»، بالإضافة إلى «تسع محطّات تلفزيونية ونحو 40 محطّة إذاعية». وتوصّل إلى أنّ أكثر من 84% من وسائل الإعلام «ترتبط عبر الأسهم والملكية بالطبقة السياسية اللبنانية، بمن في ذلك أولئك الذين يشغلون مناصب في السلطتَين التشريعية أو التنفيذية، ومن بينها 27% تنتمي بشكل مباشر إلى أحزاب سياسية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ أكثر من 70% من مالكي وسائل الإعلام في القائمة مرتبطون بسياسيّين منتخبين أو معيّنين، بمن في ذلك أعضاء البرلمان أو الوزراء أو قادة الأحزاب». وخلص التقرير إلى أنّ «حوالى 32% من وسائل الإعلام الأكثر شعبيّةً التي شملها الاستطلاع هي في أيدي ما لا يقلّ عن ثماني عائلات بارزة في لبنان».
وبحسب «المرصد»، يمتلك 43 وزيراً ونائباً، منهم 15 حاليّاً، أسهماً في شركات إعلامية، فيما «50% من وسائل الإعلام الإلكترونية التي تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي تحافظ على استقلاليتها السياسية. مع ذلك، فهي تعتمد على التمويل الدولي من المنظّمات غير الحكومية الدولية والمنظّمات التي ترعاها الدولة، ما يجعل استدامتها تعتمد على مستويات التمويل المتقلّبة وأولويّات الجهات المانحة». كذلك، تشكّل القيمة التمويلية للوسائل الإعلامية من مدخولها الإعلاني نسبة 10%، فيما التمويل الإعلامي الكبير يأتي من العمل المصرفي والإعلانات المستترة، ولا يمكن معرفة مداخل التمويل الأخرى التي يعتاش عليها الإعلام اللبناني، بحسب «المرصد». وخلص إلى أنّ «الواقع الإعلامي من عام 2018 إلى اليوم لم يتغيّر بشكل كبير، وبقي الإعلام مرتبطاً بالعلاقات السياسية والطائفية، وباتت الساحة الإعلامية عرضة للاستقطاب السياسي والتضليل وخطاب الكراهية».
وتلفت «مؤسّسة سمير قصير» إلى أنّه «في حين أنّ الفضاء الإلكتروني قد وفّر عالماً أكثر تنوّعاً من المؤسّسات والمصادر الرقمية للمعلومات مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ التلفزيون والإذاعة والصحف المطبوعة لا تزال عرضة لضغوط السوق غير المستقرّة بشكل متزايد، بالإضافة إلى اضطراب الأسواق الإعلانية بالتزامن مع الجوّ السياسي القمعي، ويترجَم ذلك خسارةً كبيرةً في عائدات الإعلانات، وزيادة في فرص التمويل المسيّسة». وتدّعي أنّ موقع «مرصد ملكية الإعلام» «خطوة إلى الأمام في السعي إلى تحقيق المساءلة والشفافية في بلد أصبح فيه الإفلات من العقاب والتستّر هما القاعدة». هي مبادرة مفيدة في اتّجاه صون حقّ اللبنانيّين بالوصول إلى المعلومات، ولا سيّما تلك المتعلّقة بإعلامهم الذي يتدخّل بمعظمه بكلّ شاردة وواردة، ونسبة كبيرة منه باتت لا تكترث للمعايير المهنية ولا حتّى للسلم الأهلي ما دام أنّ ذلك يفيدها شعبويّاً أو تمويليّاً. والأهمّ أنّها تستعرض الجهات الكامنة وراء صفحات استباحت مواقع التواصل الاجتماعي مدّعيةً «الاستقلالية»، بما أنّ الكثير من وسائل الإعلام التقليدية معروفة الملكية والتمويل لعدد كبير من اللبنانيّين أساساً، بعكس هذه الصفحات الجديدة التي تكاثفت فجأةً كالبقّ. لكنّها مبادرة منقوصة بغياب الدعم الرسمي عنها ولا سيّما من مؤسّسات الدولة الإعلامية على رأسها «الوكالة الوطنية للإعلام». ومن الأجدى أن تكون مبادرةٌ مماثلة جزءاً من خطّة وطنية وجهود شاملة لحماية حرّية الصحافة وممارسة المهنة في لبنان، من رأس المال المشبوه قبل أيّ شيء آخر، وهي مسؤولية الحكومة بقدر ما هي مسؤولية الجمعيات الأهلية، بالإضافة إلى المواطنين.