الأخبار ـ محمد وهبة
يبدو أن لبنان مقبل على أزمة متّصلة بدعوى ستقدّمها مجموعة من حملة سندات اليوروبوندز الأجانب في نيويورك، للمطالبة بتسديد ما تراكم لهم من أصول وفوائد هذه السندات. وبحسب مصادر موثوقة تستند على معلومات وردت من جهات مالية أميركية، فإن التحضيرات لرفع دعوى على لبنان شارفت على الاكتمال، وستُرفع الدعوى في غضون أسابيع قبل سقوط الحقّ بالفوائد بفعل مرور الزمن في آذار المقبل. الدعوى ستُرفع على الدولة اللبنانية التي أعلنت التوقّف عن الدفع منذ أربع سنوات وثلاثة أشهر، وسيطالب المدّعون بإثبات وقف الدفع أولاً، ثم بالحجز على أصول الدولة اللبنانية، إلا أنه لم يتّضح بعد إن كانت الدعوى ستشمل مصرف لبنان للمطالبة بالحجز على الذهب وعلى كل ما يموّله لمصلحة الدولة مثل شحنات الفيول وسواها من سلع وخدمات.
إجراءات الدعوى مرتبطة بشروط الإصدار. فسندات اليوروبوندز هي سندات أصدرتها الدولة اللبنانية مقابل الاستدانة بالعملات الأجنبية في مراحل مختلفة، أولاها بدأت في عام 1997. أي إنها اقترضت من كل من يرغب في إقراضها وفق الشروط المتعارف عليها في الأسواق الدولية لهذا النوع من السندات، ومنحت المُقرضين إقراراً (سندات) بحقوقهم في أصل المبلغ، وفترة استحقاقه، والفوائد التي ينتجها، وآلية تسديدها، بالإضافة إلى حقّ بيع السندات للآخرين. ومن ضمن شروط هذه السندات، حُدّدت آليات رفع الدعاوى، وعمليات التقاضي التي يركن إليها الطرفان في حال الإخلال بالشروط. وتُسجّل هذه السندات في اللوكسبورغ، وتخضع لمحاكم نيويورك، أي إن لبنان أقرّ مسبقاً بأن القضاء الأجنبي في نيويورك له صلاحية البتّ بالدعوى.
وبلغت قيمة محفظة الديون المترتّبة على لبنان بالعملات الأجنبية عشية التوقف عن الدفع، نحو 31314 مليون دولار. أما على جدول الاستحقاقات، فقد كانت هناك ثلاثة استحقاقات في عام 2020، أولها في 20 آذار 2020 بقيمة 1200 مليون دولار، وثانيها في نيسان بقيمة 700 مليون دولار، وثالثها في حزيران بقيمة 600 مليون دولار (يذكر أن من أكبر حملة السندات التي استحقت في 2020 صناديق أشمور وفيدليتي). وفي عام 2021 كان هناك استحقاق واحد بقيمة 2092 مليون دولار، وفي عام 2022 استحقاقان بقيمة إجمالية تبلغ 2040 مليون دولار، وفي عام 2023 استحقاقان بقيمة 1600 مليون دولار، وفي عام 2024 ثلاثة استحقاقات بقيمة 1488 مليون دولار.
مجموع الاستحقاقات التي لم يدفعها لبنان لغاية حزيران 2024، بلغت قيمتها 8932 مليون دولار، علماً أنه بمجرّد التوقف عن الدفع تستحق كل السندات مهما كانت فترة استحقاقها، أي إن المحفظة بكاملها البالغة 31314 مليون دولار استحقّت في 7 آذار 2020.
قبل هذا التاريخ، وتحديداً في نهاية 2019، كان مصرف لبنان يحمل في ميزانيته سندات يوروبوندز بقيمة 5.03 مليارات دولار، وكانت المصارف اللبنانية تحمل سندات يوروبوندز بقيمة 13.8 مليار دولار، لكنها علمت بأمر التوقف عن السداد قبل إعلانه رسمياً، فسارعت إلى التخلّص من بعض هذه السندات وبيعها في السوق. هكذا ارتفعت حصّة الجهات الخارجية لتصل إلى 15 مليار دولار، بينما تراجعت حصّة المصارف اللبنانية إلى أكثر من 11 مليار دولار. المصارف لا تسجّل الآن هذا الرقم في ميزانياتها لأنها أُجبرت على اتخاذ مؤونات تجاه الخسائر المتوقّعة من هذه السندات، وباتت تسجّلها اليوم بقيمة 2.2 مليار دولار.
إذاً، مع استحقاق المبلغ كلّه، كان مفاجئاً أن الدائنين الأجانب «سكتوا» طوال فترة أربع سنوات وثلاثة أشهر، أي منذ أعلن لبنان التوقف عن الدفع في 7 آذار 2020. حاول كثيرون الاستفسار عن نوايا الدائنين الأجانب، إلا أن الإجابات التي أتت على لسان متابعين ومحللين ومن لديهم صلات قانونية ومالية وسياسية مع هذه الجهات الخارجية، أجمعت على أنه لا مصلحة للدائنين برفع دعاوى طالما لم يتوصل لبنان إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يُعدّ بمثابة تمهيد للتفاوض مع الدائنين. وقال هؤلاء إن الدائنين على علم بأن لبنان ليس قادراً على الدفع، لذا لا طائل من رفع الدعاوى. كذلك كانت هناك إجابة ثانية أتت في مرحلتين: أثناء جائحة كورونا، وأثناء فترة الإفلاسات التي ضربت مصارف أميركية وأوروبية في السنة الماضية، ومفادها أن المبالغ التي يدين بها لبنان للدائنين الأجانب، ليست كبيرة وأنهم لن ينشغلوا عن إدارة محافظ كبيرة بمليارات الدولارات في الغوص في مشاكل لبنان.
كل الإجابات التي وردت إلى لبنان لم تكن مقنعة، إنما كانت النتيجة واحدة، وهي أن الدائنين لم يقدموا على أي خطوة قد تؤشّر إلى وجود نوايا برفع دعوى. إنما اليوم ومع اقتراب مرور الزمن المتعلق بسقوط حقّ الدائنين بالمطالبة بالفوائد، وهو حقّ ينتهي مفعوله في أيلول المقبل، ارتفعت مخاطر الحجز على ممتلكات وأصول الدولة اللبنانية، وصار النقاش مرتبطاً بكيفية تحييد مصرف لبنان حتى لا يقع الذهب والسيولة الخارجية التي يحملها في حساباته الخارجية عرضة لهذه المخاطر.
النقاش في هذا الأمر كان أساسياً، إذ هناك قاعدة قانونية متّبعة في العديد من المحاكم حول العالم، ومن بينها محكمة نيويورك، تشير إلى أن المصارف المركزية لديها استقلالية عن الدولة المركزية، بمعنى أن ما يترتّب على الخزينة ليس بالضرورة أن يترتّب على مصرف لبنان. وهذا الرأي القانوني مصدره وزير العمل السابق كميل أبو سليمان بوصفه محامياً عن الدولة في إصدارات اليوروبوندز، لكنّ أبو سليمان لم يحسم الأمر بشكل نهائي. يومها دار الحديث عن حماية الذهب وطائرات شركة طيران الشرق الأوسط (ميدل إيست) المملوكة بنسبة 99% من مصرف لبنان. لكنّ الأمر ليس محسوماً في المسائل التي يقوم بها مصرف لبنان نيابة عن الدولة اللبنانية، مثل شراء الفيول أويل وفتح اعتمادات لشراء سلع ومنتجات من الخارج مثل القمح وسواه. لذا، لدى مصرف لبنان مخاوف من ارتفاع المخاطر المرتبطة بالحجز، ولا سيما إذا تمكّن أيّ من المدّعين إثبات علاقة فساد أو تواطوء أو أي إثبات آخر يمسّ باستقلالية مصرف لبنان تجاه الدولة اللبنانية في ظل الترويج الإعلامي والادّعاءات القضائية المرفوعة على المصرف المركزي وحاكمه السابق ونواب الحاكم ولجان الرقابة على المصارف، إذ إنه في حينه قد لا يعود ممكناً تطبيق الاستقلالية وقد يمنح القضاء النيويوركي، المدّعين القدرة على حجز أصول تُعدّ بملكية مصرف لبنان مثل الذهب وطائرات الميدل إيست وسواهما.