تناولت «الأخبار» ملف الفساد في القطاعين العام والخاص. ولدينا الكثير مما يساعد في معالجة الأمر ضمن سياق الإصلاح العام، خصوصاً موضوع مناقشة مجلس النواب مشاريع واقتراحات قوانين تخصّ مكافحة الفساد.يعود بي هذا الكلام إلى كلمة الأمين العام للمنظمة العربية لمكافحة الفساد الدكتور عامر خيّاط أمام النواب تحت عنوان «دعم تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في لبنان»، خلال ورشة عمل أقيمت في البرلمان اللبناني في 5 كانون الأول 2013، وجاء فيها: «لقد بدأ العمل في مجال قوننة الإجراءات المتعلقة بمكافحة الفساد بمبادرة الأستاذ غسان مخيبر في تشكيل لجنة من الخبراء والقانونيين تحت مظلة المجلس النيابي لدراسة المقاربات القانونية التي ترتّبت إثر توقيع الحكومة اللبنانية على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد لعام 2003، ومصادقة مجلس النواب عليها بتاريخ 22 نيسان 2009. عملت هذه اللجنة... واستطاعت في نهاية سنة 2010 إنجاز مسوّدات ثلاثة قوانين هي قانون مكافحة الفساد وتشكيل الهيئة العليا الوطنية لمكافحة الفساد وقانون حماية الشهود والمبلّغين وقانون حق المواطن في الحصول على المعلومات». ويضيف: «فوجئت بالإشارة إليه بـ"قانون مكافحة الفساد في القطاع العام" بما يوحي بأن مسوّدة القانون هذا المعروض على الهيئة النيابية قد اجتزأ بالكامل شمول "القطاع الخاص" بمكافحة الفساد، وهو ما يتعارض مع المسوّدة التي أعدّتها لجنة الخبراء، وكانت في رأيي من أبلغ وأفصح وأشمل القوانين التي تمّ إعدادها في المنطقة العربية. هذا الاجتزاء لا مبرّر له، ومسيء إلى غاية القانون ومستهدفاته، ويتعارض مع الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد نصاً وروحاً. وجاءنا اقتراح من بعض السادة النواب باجتزاء القطاع الخاص من المسوّدة التي كنا بصدد إنجازها مبرّرين ذلك بالأسباب التالية:
1 - إن لبنان بلد يعتمد كثيراً على الاستثمارات الخارجية من القطاع الخاص الأجنبي وبالتالي قد يؤدي وجود نصوص تتعلق بفساد القطاع الخاص الى إخافته في توجيه هذه الاستثمارات إلى لبنان.
2 - إن القوانين السارية المفعول (قانون العقوبات لسنة 1943 وتعديلاته مثلاً) تحتوي على ما يمكن أن يطاول القطاع الخاص من ناحية التجريم والعقوبات وبالتالي لا حاجة أن يشمل قانون مكافحة الفساد القطاع الخاص.
3 - إن معالجة الفساد في القطاع العام بالقانون مدار البحث تؤدي إلى معالجة فساد المشتركين في هذا الفساد من القطاع الخاص.
«عارضت بقوة هذا التوجه في اجتماعات اللجنة الخاصة وتمّ تفنيد جميع الأسباب المذكورة أعلاه وعلى النحو التالي:
1 - إذا كانت معالجتنا في المسوّدة ستخيف المستثمر الأجنبي الفاسد فهذا في رأيي هو المقصود. يتبع ذلك أن المستثمر النزيه سيشجعه وجود قانون يعالج الفساد في القطاع الخاص لأن في ذلك حماية له خلال عمله في لبنان.
2 - أما القول إن القوانين السارية المفعول تعالج الفساد في القطاع الخاص فهو مردود في المبدأ من حيث إن هذا التوجه ينطبق أيضاً على القطاع العام. ومردود في الواقع كما تبيّن وثيقة التقييم الذاتي لتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من حيث إنها تشير بوضوح إلى جزئية معالجة القوانين اللبنانية في بعض جوانب ما ورد في الفصل الثالث من الاتفاقية بعنوان "التجريم وإنفاذ القانون". وواقع الحال أن الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد تحتوي على 71 مادة، تعالج ما لا يقل عن 15 مادة منها الفساد في القطاع الخاص. والمسار الطبيعي هو إصدار قانون شامل لمكافحة الفساد في القطاعين العام والخاص دون استثناء.
3 - أما القول إن معالجة الفساد في القطاع العام ستؤدي إلى معالجة القطاع الخاص المُشتَرِك معه ومن خلال القانون نفسه فهو كلام غير دقيق. هناك جرائم ناتجة عن الفساد في القطاع الخاص حصراً. وأودّ الإشارة إلى أن كتلة الأموال المتراكمة في فساد القطاع الخاص تفوق عدة مرات كتلة الأموال الفاسدة في القطاع العام. فالرشوة التي يتقاضاها الموظف العمومي تكون عادة ضمن ما يشار إليه بالفساد البسيط الذي يقوم على الحاجة المادية لإعالة أهله وعائلته ويرتبط أساساً بسوء توزيع الدخل. أما الفساد في القطاع الخاص فسببه الجشع والطمع والغريزة السيئة لدى الفرد، ولا يمكن إزالته سوى بتغيير السلوك والردع وتأليب ثقافة مكافحة الفساد».
وختم خياط مداخلته بدعوة النواب لـ«العودة إلى النص الشامل لمسوّدة هذا القانون كما وضعتها لجنة الخبراء وتم التوافق عليها بالإجماع».
قد يجدر التذكير بأنّ أول قانون لـ«الإثراء غير المشروع» كان قد صدر في لبنان بالمرسوم الاشتراعي الرقم 38 في 18 شباط من عام 1953 ولم يُسْتَخدَم قط. علماً أنّه يمكن للمتابع التعرّف إلى محاولات مكرّرة لقوننة الموضوع منذ تسعينيات القرن الماضي، وإن كان لا أظنّه يسمع عن تنفيذ حكم واحد في هذا المجال، توقّفتُ عند قول، مرّ عليه نصف قرن ونيف من الزمن، للشاعر الراحل سليم حيدر فيه:
أنّني مثَّلت دوري نائباً في "برلمانٍ"
كل إصلاح يراه خطوات مستحيلهْ !
ذاك أنَّا، منذ أن كنا، أنانيّون بُلْهُ
كلَّ فردٍ همُّه أن يصدر الإصلاح عنه (*)
وهل يذكّركم البيت الأخير بسجال النواب الوارد أعلاه حول دمج الاقتراحين أو عدمه؟
وبالانتقال إلى جوهر القضية، فصل فساد القطاع الخاص عن قرينه العام، وبالاستناد إلى زيف قول بعض المشترعين بأنّ مجرّد وجود قانون لمكافحة الفساد في القطاع الخاص من شأنه أن يبعد المستثمر... لا بل بناءً على ذلك بات علينا أن نحمّل «جميع نواب الأمة» لدورة عام 2013 مسؤولية ما تمّ تلطيف وقعه، أخيراً، باستخدام تشكيلة من المصطلحات مثال: الانهيار والفجوة والثغرة والخسارة (المالية والاقتصادية)، وأكرّر، نحمّلهم كامل مسؤولية سرقة العصر والعمر معاً، التي ذهبت مع تعب الناس، في أكبر عملية فساد عرفتها البشرية إذا ما قيست على أساس عدد السكان. ولا شك عندي أنّها كانت أنجح عملية شراكة بين القطاعين العام والخاص.