في بداية الحرب العالمية الثانية تم إجلاء ملايين الأطفال من لندن ومدن أخرى، وأرسلوا للعيش مع الآباء بالتبني في الريف الإنجليزي، وأصبح ما حدث لهؤلاء الأطفال موضوع دراسة للتحليل النفسي من قبل عالمة النفس آنا فرويد التي ذكرت في كتاب لها عام 1943 أن الأطفال الذين بقوا مع أسرهم خلال القصف "كانوا أقل انزعاجا" من أولئك الذين تم ترحيلهم.
كما درس عالم النفس البريطاني جون بولبي الأطفال الذين أمضوا فترات طويلة في المستشفيات منفصلين عن عائلاتهم، وساعد البحث على إثبات "نظرية التعلق" المؤثرة التي تؤكد على العلاقة بين الوالدين والطفل والأضرار الناتجة عن الفصل بينهم.
وكانت هذه الدراسات جزءا من مجموعة كبيرة من الأبحاث بشأن ما يحدث عندما يتم فصل الأطفال عن آبائهم، لكن ماذا عن الوضع الذي نعيشه الآن، إذ إن الحجر الصحي بسبب فيروس كورونا يعزل الأطفال ليس عن آبائهم ولكن عن أقرانهم ومعلميهم وكل شخص آخر موجود في حياتهم؟
اللعب مع الزملاء
يتناول موقع "هيشينجر ريبورت" المهتم بقضايا التعليم موضوع تأثير انفصال الأطفال عن زملائهم بالدراسة ومن كانوا يلعبون معهم من خلال عرض آراء عدد من الباحثين تتبعتها المحررة السابقة في الجزيرة أميركا كارولين بريستون في تقريرها على الموقع.
وتقول عالمة الإنثروبولوجيا والأستاذة الفخرية في جامعة كاليفورنيا سارة بلافر هردي "لا نعرف حتى الآن كيف سيؤثر العزل المنزلي على الأطفال، هذا نوع من التجارب القاسية ما زالت قيد العمل".
وتضيف "إن وجود الأطفال دون زملاء للعب أثناء الحجر الصحي قد يكون له عدد لا يحصى من الآثار، لكن القليل من البحوث أجريت لمعرفة ذلك بشكل علمي".
وتشير هردي إلى دراسة أجراها عالم الأعصاب الإدراكي أرجين ستولك الذي وجد أن الأطفال الذين يذهبون إلى روضة الأطفال كانوا قادرين على التواصل بشكل أكثر فعالية مع أقرانهم من الأطفال الذين لم يفعلوا ذلك.
أما في الدراسة فقد طلب من الأطفال في الخامسة من العمر استخدام الاتصال غير اللفظي لتوجيه الأطفال من مختلف الأعمار من خلال لعبة فيديو، فوجد البحث أن الأطفال ممن كانوا في الرعاية النهارية كانوا أكثر قدرة على تكييف تفاعلاتهم.
وتقول هردي "لم يستغرق الأمر وقتا طويلا في دور الرعاية لتكون لها هذه الآثار الكبيرة"، وهذا يعكس خطورة بقاء الأطفال الصغار في المنازل في الوقت الذي يجب أن يكونوا بالخارج لبناء أدمغتهم.
بدوره، يقول جيمس كوان أستاذ علم النفس في جامعة فرجينيا إنه بالنسبة للأطفال الصغار على وجه الخصوص فإن فقدان اللعب مع أقرانهم له أثره الكبير، حيث إن اللعب يسهل التطور المعرفي، كما أن الكبار ليسوا رفقاء لعب جيدين للغاية "إنهم مملون، وينفد صبرهم ولديهم أشياء أخرى للقيام بها"، كما أن الأمر أصعب على الأطفال الذين ليس لديهم أشقاء، وهي فئة نمت بشكل ملاحظ في العقود الأخيرة.
ويؤكد على ذلك أيضا كينيث روبين أستاذ التنمية البشرية في جامعة ميريلاند، حيث يقول إنه من خلال اللعب والتفاعلات بين الأقران الآخرين يطور الأطفال أيضا مهارات اجتماعية وإحساسا بالأخلاق.
ويقول "يحتاج الأطفال إلى أقرانهم لاختبار التجارب التفاعلية الأساسية التي تؤدي إلى تطوير علاقات وثيقة خارج الأسرة".
نضوب طاقة الآباء
ويشير كوان إلى أن الآباء يحتاجون إلى طاقة مضاعفة للتعامل مع أطفالهم الصغار بالحجر المنزلي، لأن أدمغة الصغار لم تنمُ بشكل كامل، وهم بحاجة دائمة إلى الآخرين لتنظيم عواطفهم وتوجيههم، وهذا قد يكون مرهقا للغاية.
وهنا يأتي دور مقدمي الرعاية النهارية والمدرسين والأصدقاء والخالات والأعمام، ولا يقتصر الأمر على مجرد قضاء وقت ممتع بالخارج ولكنه يتخطى ذلك لمنح الفرصة للآباء ليرتاحوا قليلا ويعيدوا شحن طاقتهم للبدء مجددا مع أبنائهم.
ويقول كوان "ما يقلقني هو أن الأطفال في هذا الوباء الحالي سيعانون لأن الآباء معزولون أيضا عن شبكات الدعم الاجتماعية التي تنظم مشاعرهم السلبية".
ويضيف أنه يجب على الآباء دعم بعضهم البعض، وأن الوالدين يحتاجان إلى إيجاد طرق لأخذ استراحات من الأبوة قدر الإمكان، وإذا استمرت هذه الأزمة لعدة شهور فإن البالغين سيخاطرون بنفاد مواردهم العاطفية بسبب التعرض الطويل للضغط.
ويتابع كوان "إذا أُحرقت تلك الموارد بسرعة أكبر فلن يملك الآباء الصبر والهدوء اللازم للرد على أسئلة أطفالهم المتعلقة بعدم قدرتهم على الذهاب إلى المدرسة، ولن يكونوا قادرين على دعمهم حينما تزيد فترة عدم تمكنهم من رؤية أصدقائهم".
تجارب مختلفة
وتقول كارولين بريستون إن جميع الباحثين الذين تحدثت إليهم شددوا على أن تجارب الأطفال مع جائحة كوفيد 19 ستختلف اختلافا كبيرا.
من جهته، أوضح جاي بيلسكي أستاذ التنمية البشرية في جامعة كاليفورنيا أنه قد يكون الطفل الوحيد أو الطفل الذي لا يتفاعل بصورة جيدة مع الأشقاء أكثر عرضة للخطر من الطفل الذي لديه رفيق أو أخ يجيد اللعب معه، وقد يكون الأطفال من الآباء والأمهات المصابين بالقلق الزائد والمعزولين اجتماعيا أكثر عرضة للخطر من أطفال الآباء الذين لديهم مهارة في مساعدة بعضهم البعض.
ورغم أن التواصل الافتراضي قد يخفف العزلة فإن جميع الأطفال لا يستطيعون الوصول إلى شبكة الإنترنت والأدوات الأخرى التي تمكنهم من التواصل مع أصدقائهم وعائلتهم الممتدة.
ويذكرنا فيروس كورونا بمدى أهمية كل منا لبعضنا البعض بصفتنا كائنات اجتماعية، فنحن لا نتأقلم مع الاعتماد على شخص واحد أو حتى شخصين لتربيتنا.
إن الأطفال يحتاجون إلى مجتمع كامل يساهم في تربيتهم ومساعدتهم على النمو، أما الفكرة الخاصة بأن الأطفال يحتاجون فقط إلى والديهم فهي ليست صحيحة تماما.
(ليلى علي - الجزيرة نت)