(الغارديان البريطانية)
قال المعلق في صحيفة “الغارديان” جورج مونبويت، إن عمليات الخصخصة التي قامت بها حكومات المحافظين المتعاقبة هي في قلب الرد الكارثي على فيروس كورونا.
فمن عدم توفر المعدات الواقية للعاملين في القطاع الصحي إلى مآسي بيوت الرعاية، كشفت هذه الأزمة عن دور الشركات في صناعة السياسة العامة. فوسط الضباب المتصاعد من الأكاذيب والتناقضات هناك سؤال علينا ألا نتوقف عن طرحه: “لماذا فشلت حكومة المملكة المتحدة وبصورة مذهلة في الدفاع عن حياة شعبها؟ ولماذا وقعت هذه الغابة التي بنتها الطبيعة بنفسها ضد العدوى كما قال شكسبير واصفا الجزر البريطانية أكثر من بقية الدول الأوروبية بأنها ضحية وباء يمكن التكهن به واحتواؤه؟”.
ويجيب الكاتب أن جزءا من الإجابة على هذه الأسئلة هو دور الحكومة التي دمرت عن معرفة وقصد أجزاء من جهاز الرد على الطوارئ. أما الجزء الثاني من الجواب، فهو عندما حاولت الحكومة وأخيرا تعبئة النظام انهارت الأجزاء الحيوية فيه.
ويرى الكاتب أن هناك الكثير من مظاهر الفشل المتعدد الذي كشفت عنه أزمة فيروس كورونا، منها تدخل قوى المال والشركات في السياسة العامة والخصخصة والتسويق والتعهدات ونقل العمليات للخارج، والتي أدت لإضعاف قدرة الرد البريطاني على الأزمة، “خذ مثلا الفشل بتوفير الملابس الواقية، الأقنعة والمكونات الأخرى من الملابس الحامية لعمال الصحة”، مشيرا إلى تقرير حملة “وي أون إت” الذي يحاول فهم السبب الذي أدى لوفاة أعداد من الأطباء والممرضين وغيرهم من عمال المستشفيات بدون داع نتيجة الإصابة بكوفيد-19.
ووصف التقرير نظاما لم يبن لمنفعة العمال الصحيين والمرضى ولكن لخدمة الشركات والعقود التجارية، وهو نظام صمم لكي يفشل حتما. وقال إن هناك أربع طبقات من المتعهدين التجاريين، كل منها لديه فرصة للإثراء والتربح، وبين الأطباء والممرضين والمعدات التي يحتاجونها.
ويتم توزيع هذه الطبقات الأربع على 11 شبكة إمداد ليست مترابطة أو منسقة بشكل يخلق صيغة تامة للفوضى. ومن بين الراوبط الضعيفة في شبكات الإمداد هي شركات الاستشارة مثل “ديلويت” التي تعرضت لانتقاد بسبب المهزلة التي عملتها عندما حاولت شراء ملابس واقية.
وتقف على آخر السلسلة في شبكات الإمداد، شركات التصنيع التي منح بعضها وبطريقة غامضة احتكارا على توفير المعدات الضرورية. ولم تنجح هذه الاحتكارات الخاصة، في الوفاء بشروط العقد أو أنها وفرت طلبات فيها عيوب لنظام الصحة الوطنية (أن أتش أس) مثل المناظير الواقية وحمولة طائرة من المعاطف الطبية التي تم رفضها.
وبدلا من قيام هذه الشركات بتخزين الإمدادات استعدادا للطوارئ، قامت بتصنيع المواد حسبما تقتضيه الحاجة من أجل تخفيض النفقات. ولأنها اعتمدت نظام انتاج الحد الأدنى، فلم تكن قادرة على رفع مستوى الإنتاج عند الحاجة.
وبدلا من وجود برنامج سلس ومنسق ويتعرض للمراقبة، كان هناك تعتيم وتعقيد مفرط. وكل هذا بسبب الخصخصة التي فضحها الوباء، خاصة خصخصة نظام الرعاية الصحية الذي بدا أنه لم يكن مستعدا للأزمة.
ففي عام 1993 كانت نسبة 95% من بيوت الرعاية تخضع لإدارة السلطات المحلية، أما اليوم فقد أصبحت بيوت الرعاية الصحية كلها تحت إدارة شركات خاصة. وحتى قبل الوباء كان النظام يتداعي لأن الشركات الخاصة هذه لم تكن قادرة على الموازنة بين احتياجات المرضى ومطالب المساهمين بها وانتهى العديد منها بالفشل الذريع والإفلاس.
واليوم اكتشفنا خطورة الضرورات التجارية والحاجة لجعل الرعاية مصدرا للربح والتي خلقت نظاما متشظيا وغير متماسك ويتبع ملاكا يعيشون في الخارج فشلوا في تقديم أبسط معايير الرعاية واعتمدوا على عاملين لم يمنحوا عقود عمل مجزية، إلا عقودا لا يلتزم فيها صاحب العمل بتحديد ساعات العمل (عقود ساعة الصفر).
ويرى مونبويت أن الدرس الذي نتعلمه من هذا الوباء هي الحاجة لنظام رعاية اجتماعي تملكه الدولة على غرار نظام الصحة الوطنية. وربما أصبح الوضع أسوأ بسبب أثر قوة الشركات، ففي تقرير أعدته مراقبة الشركات الأوروبية والذي أشار إلى أن شركات المحاماة تفكر في استكشاف إمكانية تقديم الحكومات إلى المحاكم لفشلها باتخاذ الوسائل المناسبة لوقف الوباء.
وتحتوي كل المعاهدات التجارية على بند اسمه ” تسوية منازعات بين الدول” وهو ما يسمح للشركات تقديم الحكومات إلى محاكم غامضة في الخارج على أي سياسة قد تضر بـ”أرباحها المستقبلية المتوقعة”.
فعندما فرضت الحكومات منع السفر أو الاستيلاء على الفنادق أو دعوة الشركات لإنتاج المعدات الطبية وتخفيض أسعار الأدوية، فإن هذه الشركات تستطيع تقديم الحكومات إلى المحاكم والمطالبة بالأرباح التي خسرتها.
ويمكن أن تتعرض حكومة بريطانيا إلى قضايا في المحاكم الدولية تماما كما فعلت الحكومة الإسبانية التي منعت أصحاب البيوت من طرد المستأجرين وشركات الماء والكهرباء من قطع الخدمات عن العملاء الفقراء.
فهذه الإجراءات التي تجاوزت الديمقراطية، عرقلت جهود الدول خاصة الفقيرة لحماية سكانها من الكوارث. ويتعرض عمل الصحة الوطنية وفعاليته لأثر من المعاهدة التجارية التي تأمل بريطانيا عقدها مع الولايات المتحدة.
ووعد المحافظون في بيانهم الإنتخابي أن “أن أتش أس، ليس على طاولة” المفاوضات للمعاهدة التجارية، لكنهم حنثوا بوعدهم في وقت تحاول فيه الشركات الأمريكية الحصول على حصة من نظام الرعاية الصحية البريطانية.
وستكون المحادثات معقدة وكذا فرص خداع الناخب البريطاني. فمهمة بوريس جونسون التي يشرف عليها مستشاره دومينك كامينغز هي كسر كل الحواجز بين الحكومة والمال. وهي مهمة تسمح للمصالح الخاصة التدخل في قلب الحكومة وتهميش قطاع الخدمة المدنية. وهذا هو السبب الذي يفسر تردد جونسون بالتخلي عن كامينغز الذي كسر قواعد الإغلاق. وكوارث الأسابيع الماضية تؤشر لنتائج محتملة كهذه.