نقلاً عن موقع الجزيرة نت - شادي عبد الحافظ
في الخامس من (يونيو/حزيران) الحالي، قرّرت دورية "ذا لانسيت" الطبية، واحدة من أكبر الدوريات وأكثرها ثقلا في هذا النطاق، سحب ورقة بحثية نُشرت في الثاني والعشرين من مايو/أيار الفائت كانت قد لاقت اهتماما عالميا واسعا فور صدورها، فهي تتحدث عن الأضرار الممكنة لـ "الهيدروكسيكلوروكين" على قلب المرضى بـ "كوفيد-"19، وتُشير إلى أنه غير فعّال في حالات "كوفيد-19".
كانت هذه الدراسة هي الأكبر على مستوى العالم، أُجريت على بيانات قرابة 100 ألف شخص من نحو 700 مستشفى في كل القارات، لذلك فقد كانت نتائجها مؤثرة لدرجة أنها دفعت منظمة الصحة العالمية لوقف تجاربها على العقار، لكن بعد سحب الدراسة عادت المنظمة مرة أخرى لتجاربها، لكن مشكلة الهيدروكسيكلوروكين في الحقيقة أكبر من مجرد بحث علمي. كان هذا العقار نقطة جدل رئيسية في الشهور الخمسة الماضية، سواء بين الباحثين، أو حتى الجمهور في الشارع.
ظهر الحديث عن الكلوروكين والهيدروكسيكلوروكين للنور في نهايات يناير/كانون الثاني الماضي، حينما نشرت مؤسسة ووهان الصينية لعلم الفيروسات دراسة أولية بدورية "نيتشر سيل ريسيرش" الشهيرة تُشير إلى أن عقار الكلوروكين وبالتبعية رفيقه الأكثر أمانا "الهيدروسيكلوروكين"- يمكن أن يؤديا دورا جيدا في علاج المرض. العقاران بالأساس يُستخدمان لعلاج الملاريا وكذلك في تنظيم بعض أمراض المناعة الذاتية.
استُخدم الكلوروكين في إصابات "سارس" قبل 17 سنة وكان له دور في إنقاذ بعض المرضى من الحالات الخطيرة، ويُعتقد أن الأمر لا يتعلق بالكلوروكين تحديدا لكن بالزنك، لأن دخوله للخلية يمنع هذا "بوليميريز الرنا المعتمد على الرنا" -الإنزيم الذي يُعيد نسخ الفيروس داخل الخلية البشرية- من تأدية عمله بشكل طبيعي، لكن الخلايا البشرية لا تسمح بسهولة بإدخال الزنك إليها، هنا يأتي دور الكلوروكين والذي يُحسن هذه الآلية.
إلى جانب بعض المستشفيات الصينية، ظهرت استخدامات أوّلية لهذا العقار في كوريا الجنوبية، حيث أشار الباحثون إلى دور كبير يمكن أن يلعبه في تخفيف الأعراض في المراحل المتقدمة للمرض، ولأن الكلوروكين غير موجود في كوريا الجنوبية أوصى الخبراء إما باستخدام الهيدروكسيكلوروكين (تجاريا: البلاكونيل) أو عقار آخر يُدعى الـ "كاليترا"، ويحتوي مضادين فيروسيين هما الريتونافير واللوبينافير، وكان قد أظهر أيضا نتائج إيجابية في بعض الحالات في كوريا الجنوبية، خاصة إذا اقترن بأدوية أخرى.
وفي التاسع من مارس/آذار، نشر فريق صيني آخر ورقة بحثية في دورية "كلينيكال انفيكشاس ديزيز" تُشير إلى أن الهيدروكسي كلوروكين كان فعالا في إيقاف تطور خطير جدا ومميت في الحالات الحرجة من كورونا الجديد يُسمى "العاصفة السيتوكينية"، وأن الهيدروكسي كلوروكين -بالنسبة لقدرات المرضى على تحمل الدواء- كان أفضل من الكلوروكين نفسه.
لكن كل ما سبق من الأبحاث كان على عينات صغيرة العدد من المرضى وكانت الأبحاث الأخرى على عينات معملية، وكان من الصعب أن يصل الباحثون إلى إجماع حول الأمر مع نتائج مهتزة كتلك، خاصة مع عدد المصابين الهائل (بينما نتحدث فنحن نقترب من 7 ملايين مصاب مع 53 ألف حالة حرجة وقرابة الـ 400 ألف وفاة).
في تلك النقطة تظهر دراسة "ذا لانسيت" التي تقول إن العقار غير فعال في علاج المرض بالحالات المتقدمة مع مخاطر تُشير إلى ارتفاع نسب الوفاة، بعد صدورها ظهرت تشكيكات كبيرة أرسلها 120 باحثا في خطاب إلى الدورية، حيث اعتمدت الدراسة على بيانات قرابة 100 ألف شخص لكنها وضعت أعدادا من المصابين والوفيات من كلٍّ من أستراليا وبعض الدول الأفريقية أكبر من المعلن عنها حكوميا في تلك الدول، وتبيّن بعد ذلك وجود خطأ في طبيعة البيانات. في البداية، جادل الباحثون أنه لا يؤثر في قيمة الدراسة.
لفت ذلك الانتباه إلى شركة "سيرجيسيفير" (Surgisphere) الأميركية التي أمدّت الفريق البحثي ببيانات المرضى، هنا قرّرت جريدة الغارديان إجراء تحقيق مفصل عن الشركة والتي ظهر أنها شركة مجهولة نسبيا، فهي غير موجودة تقريبا على الإنترنت، وانقطعت عن النشر على وسائل التواصل الاجتماعي من 2017 حتّى مارس/آذار 2020، كذلك فقد وجدت الجريدة أن اثنين من العاملين في تحليل البيانات بالشركة يعملان بوظائف غير علمية، وهو أمر مفترض تحقّقه، أحدهما كاتب روايات خيال علمي، والثانية هي عارضة أزياء وتتعلق بعض أعمالها بإنتاج الأفلام الإباحية.
دفعت تلك الضجة البحثية دورية "ذا لانسيت" إلى مطالبة شركة "سيرجيسيفير" بتوفير البيانات الخاصة بهؤلاء المرضى، لكن الشركة رفضت ارتكازا إلى اتفاق سرية بيانات المرضى الذي وقّعه الباحثون معها، الأمر الذي أدّى مباشرة إلى سحب الدراسة، كذلك سحبت الدورية المرموقة "نيو إنجلاند جورنال أوف ميدسن" دراسة أخرى بسبب اعتماد الباحثين على بيانات من الشركة نفسها كانت تفحص أثر بعض أدوية ارتفاع ضغط الدم على تطور حالات "كوفيد-19" إلى الأسوأ.
كان هذا الحدث -بحد تعبير ايان كيردج عالم المناعة من جامعة سيدني الأسترالية في تصريح لدورية "نيتشر" – "بأكمله كارثيا، فهو يُمثِّل مشكلة بالنسبة للمجلات الطبية المعنية، ويُسبِّب مشكلة لسلامة العلم، ويُسبِّب مشكلة لفكرة التجارب السريرية وتوليد الأدلة، ويُسبِّب مشكلة للطب كله". دفع الأمر بالكثير من الباحثين في الوسط الطبي إلى إعادة النظر في كيفية إدماج البيانات في الدراسات العلمية، وكيفية التحقق من صحتها ومراجعتها، وطُلب إلى الدوريات العلمية كذلك إعادة النظر في كيفية مراجعة الورقات البحثية التي تعتمد على بيانات كتلك.
لكن الأكثر أهمية من الضجة العلمية هي أن ما حدث دفع بدوره في اتجاه نظرية المؤامرة، لفهم تلك النقطة دعنا نرجع مرة أخرة إلى فبراير/شباط الماضي، بعد ظهور النتائج الأولية الخاصة بالكلوروكين ظهرت مجموعة من التصريحات المهمة لرواد الأعمال مثل إيلون ماسك عن هذا العقار، في إشارة إلى استثمارات ممكنة فيه.
لكن الأكثر تأثيرا كان تصريح دونالد ترامب، في التاسع عشر من مارس/آذار، أن هذا العقار قد يكون "عاملا حاسما" في لعبة القضاء على "كوفيد-19″، ثم تلت ذلك تصريحات أخرى له يقول فيها إنه يعتمد بشكل شخصي على الهيدروكسيكلوروكين للوقاية من "كوفيد-19"، الأمر الذي دفع الجمهور للهجوم على الصيدليات وشراء كميات كبيرة منه ما تسبّب في نقصه بالأسواق، إلى جانب ظهور بعض حالات التسمم بسبب استهلاك الدواء بجرعات غير مناسبة.
على أثر تلك التصريحات تحوّل البحث العلمي الخاص بالهيدروكسيكلوروكين إلى حرب سياسية، ليست فقط محلية في الولايات المتحدة الأميركية بل في كل العالم تقريبا. على سبيل المثال، كان ريك برايت، متخصص علم المناعة الأميركي الشهير، قد أشار إلى أن بعض الأفراد في الإدارة السياسية يدفعون التمويل دفعا ناحية الأبحاث التي تحاول إيجاد فوائد لهذا العقار، في الجهة الأخرى يستخدم معارضو ترامب النتائج التي تعارض الفوائد الممكنة لهذا العقار لكي يُثبتوا مدى خطأ الرئيس الأميركي وسذاجته في إدارة الموقف.
ولذلك فعلى الرغم من أنه من المحتمل أن تحدث حالات "احتيال" شبيهة أو أخطاء بحثية في الوسط العلمي، وإن كان ما حدث هنا كبيرا في أثره، فإن هذه الحادثة تحديدا لها جانب سياسي، لذلك ذهب فريق من الجمهور -كما هو متوقع- إلى أن هذه الشركة مدعومة من أحد التوجهات السياسية أو الشركات التي تُنتج عقارات منافسة للهيدروكسيكلوروكين في أثناء جائحة ستتسبّب في أرباح مليارية لأي عقار ينجح في هذا السباق، لكن في الواقع، فإن السبب الرئيسي في كل ذلك كان -من الأساس- حينما قرّر السياسيون الدخول إلى أرض البحث العلمي والرهان على تيار دون غيره.
مع كل تلك الفوضى التي حدثت بسبب الكلوروكين والهيدروكسيكلوروكين، ونقل الجدل حولهما من أروقة المعاهد والمعامل البحثية إلى أروقة الحكومات والشوارع، بدأت بعض الجهات البحثية في سحب تمويلها من الدراسات التي تعمل على فحص هذا العقار، وتصور الجمهور على الجانب الآخر أن الهيدروكسيكلوروكين "قاتل"، رغم أن العقار نفسه كان آمنا طوال 75 سنة تقريبا، ما تسبّب في انسحاب الكثير من المتطوعين لتجريب العقار.
من جهة أخرى، قرّرت بعض الدول الاستمرار في استخدامه ضمن بروتوكولها العلاجي طالما أن لا توجد نتائج مؤكدة، لكن المشكلة أنه مع كل هذا الجدل العلمي-السياسي لن توجد بيانات مؤكدة. نحن لا نعرف بعد إن كان الهيدروكسيكلوروكين مفيدا أم لا في علاج الحالات المتقدمة من "كوفيد-19"، لكن المشكلة أن إجابة هذا السؤال تأخرت كثيرا بسبب بلبلة سياسية حول الأمر وضعت باحثي العالم أجمع في منطقة الشك، وربما نفوّت لفترة طويلة -أو للأبد- على المرضى فرصة استخدام علاج آمن ورخيص وموجود في كل العالم.
في الواقع، فإن التدخل السياسي في الإدارة العلمية لأزمة "كوفيد-19" أكبر من حالة الهيدروكسيكلوروكين، منذ بداية الأزمة تستخدم الحكومات حول العالم لفظة مثيرة جدا للانتباه في إعلام الجمهور بخططها للمستقبل مع هذه الجائحه، وهي: "نحن نتبع العلم"، كان أول مَن استخدمها هو بوريس جونسون في حديثه الشهير عن "مناعة القطيع".
لكن هل يستخدم السياسيون العلم حقا؟ في إبريل/نيسان الماضي، ظهرت دراسة في دورية "ذا لانسيت" تُشير إلى أن النقاش السياسي حول خطط التعامل مع "كوفيد-19" سياسيا كان مدفوعا ببيانات بحثية غير مؤكدة لم تُنشر بعد في دوريات علمية رصينة ولم تُراجع من قِبل باحثين متخصصين في هذا الأمر. من جهة أخرى فإن أسئلة السياسة تختلف عن أسئلة العلم، بمعنى أن العالِم لا يقول للسياسي ما الذي يفعله، وإنما يجيب عن سؤال محدد يسأله رجل الحكومة، لكن تراتيبية الأسئلة الحكومية لا علاقة لها بهذا العالِم أو بحثه العلمي مهما بلغ من رصانة، وبالتالي فإن المتحكم الأول في عملية صياغة القرار السياسي هو السياسيون، أما لفظة "نتبع العلم" فهي موجودة بالفعل، لكنها -بشكل أكبر- تُستخدم لدفع الجمهور كي يثق في الحكومة.
هل سيمتد هذا الجدل السياسي ليشمل عقارات أخرى؟ ربما يحدث ذلك، خاصة أننا في أجواء متوترة يبحث الجميع خلالها عن مصلحته الخاصة، لكن ذلك للأسف يؤخِّر وصولنا إلى علاج مناسب في الموعد المناسب، وقد نخسر الكثير من الأرواح التي كان من الممكن إنقاذها بالتوصل إلى اتفاق علمي رصين حول هذا الأمر في وقت سابق.
لقراءة المقال من الموقع اضغط هنا