حسني محلي - الميادين نت
تستبعد أوساط تركية أن تنجح الحكومة في مساعيها للحد من تبعات الأزمة المالية، بعد أن بيّنت الأرقام أن أنقرة ستضطر حتى آب/أغسطس القادم إلى تسديد ما قيمته 80 مليار دولار من مستحقات الديون الخارجية، البالغة 460 مليار دولار.
مع استمرار النقاش داخلياً حول الإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومة التركية على صعيد معالجة المشاكل الاقتصادية والمالية الناتجة من أزمة كورونا، بات واضحاً أن هذه الأزمة انعكست بشكل خطير ومؤلم على الاقتصاد التركي.
وتتحدّث المعارضة التركية عن إغلاق ما لا يقل عن 230 ألف شركة ومؤسسة تجارية حتى نهاية الشهر الماضي، مع دخول اللّيرة التركيّة في أزمة انخِفاض حادة منذ الإعلان الرسمي عن تفشي الوباء في 11 آذار/مارس. وقد تراجعت قيمة الليرة مقابل الدولار، لتصل إلى 7,24 في أواسط الشهر الماضي، بعد أن كانت 6,20 ليرة في بداية آذار/مارس، ثم تراجعت إلى 6,80 هذا الأسبوع.
وشنّت المعارضة هجوماً عنيفاً على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وصهره وزير الخزانة والمالية برات البايراك، وحمّلتهما معاً مسؤولية الأزمة المالية. وقال وزير الاقتصاد السابق وزعيم حزب الديموقراطية والتقدم، علي باباجان، "إنها أعادت البلاد إلى بداية السبعينيات". واعتبر فائق أوزتراك، المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري، أن "المصاريف المباشرة وغير المباشرة للتدخل التركي في سوريا وليبيا عامل أساسي في هذه الأزمة"، وقال رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب المستقبل، أحمد داوود أوغلو، الذي يوجه انتقادات عنيفة جداً لإردوغان، "إن الفساد هو أحد أسبابها".
وترافق كل ذلك مع المعلومات التي تتحدث باستمرار عن توتر جدي بين الوزير البايراك ومديري المصارف الأجنبية، التي اتهمها بالتلاعب بالعملات الصعبة، وفرض عليها قيوداً مشددة، ناسياً أن الرأسمال الأجنبي يسيطر على حوالى 60% من القطاع المصرفي، ونسبة مماثلة من تعاملات بورصة إسطنبول.
وتشير المعارضة إلى انخفاض حاد في احتياطي البنك المركزيّ من العملات الصّعبة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ليصل إلى 25 مليار دولار، وهو أدنى مُعدَّلٍ له منذ أزمة العام 2018، وفق كلام الوزير السابق علي باباجان.
ويعلل الخبراء الاقتصاديون تراجع الاحتياطي بإقدام البنك المركزي على بيع ما مِقداره 12 مِليار دولار من العملات الصّعبة في الأسواق المحليّة، لدعم اللّيرة ومنع تدهور قيمتها، في ظل المعلومات التي تتحدث عن هروب حوالى 15 مليار دولار من هذه العملات من تركيا، مقابل مليار دولار سحبها المواطنون من البنوك.
وقال فائق أوزتراك المتحدث باسم الشعب الجمهوري: "إن المواطن، ومعه الرأسمال الأجنبي، لم يعد يثق بالرئيس إردوغان الذي قضى على استقلالية القضاء، وهو ما أزعج المستثمرين الأجانب، وزعزع ثقتهم بالحكومة وقراراتها".
ويذكّر الخبراء الاقتصاديون بقرار الرئيس إردوغان العام الماضي، بإقصاء محافظ البنك المركزي وتعيين رجل مقرب منه لهذا المنصب، متهماً الأول بعدم تنفيذ أوامره في ما يتعلّق بخفض سعر الفائدة التي تراجعت إلى 8,75%، بعد أن كانت نهاية العام الماضي 24%.
ويقولون إنّ الأوساط المالية العالمية ترى في ذلك تدخلاً سافراً في استقلالية البنك المركزي، الذي قالت عنه المعارضة إنه تحول إلى "دائرة مالية تعمل وفق مزاج الرئيس إردوغان"، فيما استبعدت أوساط المعارضة للأخير أن يوقع على أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لأنه سيشرف حينها على الاقتصاد التركي بأكمله، ويمنع كل أنواع الفساد، وهو من أهم سمات حكم إردوغان، على حد قول المعارضة.
ويرى الكثيرون في هذا الفساد سبباً مهماً في الأزمة المالية التي عانت منها البلاد صيف العام 2018، عندما تراجعت قيمة الليرة بنسبة 50%، بعد أن هدد الرئيس ترامب آنذاك بتدمير إردوغان والاقتصاد التركي إذا لم يتم إخلاء سبيل القس برونسون.
وكانت قطر أعلنت حينها أنها ستساعد حليفتها أنقرة بضخ 15 مِليار دولار من العُملات الصّعبة كاستِثمارات في الاقتصاد التركيّ، ولكن لم يتحقق منها سوى ما قيمته 5 مليارات. وتتحدث المعلومات الآن عن مساعي الرئيس إردوغان للحصول على مساعدات مالية من أميركا والمؤسسات المالية العالمية، بعد قراره بتأجيل تفعيل صواريخ "أس -400" الروسية والعمل المشترك في ليبيا ضد روسيا، وهو الموضوع الذي بحثه مع الرئيس ترامب في 23 أيار/مايو الماضي و8 حزيران/يونيو الحالي.
ولم يحالفه الحظ، على الأقل حتى الآن، في إقناع الرئيس ترامب، أولاً لخلافه معه في شرق الفرات، وثانياً بسبب الانكماش في الاقتصاد الأميركي، الناتج من أزمة كورونا، وهو الحال بالنسبة إلى معظم اقتصادات العالم، التي أدت إلى موجة من الغضب الشعبي في أميركا ذاتها.
ودفع هذا الرفض الأميركي أنقرة إلى إجراء محادثات سرية وعلنية مع حكومات 34 دولة، بما فيها اليابان وبريطانيا وقطر والصين، من أجل التوقيع على اتفاقيات عاجلة للقيام بالتعاملات التجارية والمالية عبر خطوط التبادل بالعملات المحلية ((SWAP، وهو ما فعلته مع موسكو وطهران سابقاً.
واتهم محرم إينجا، مرشح المعارضة في انتخابات الرئاسة في حزيران/يونيو 2018 ضد الرئيس إردوغان، البنك المركزي "بالتوقيع على اتفاق خطير مع قطر"، وقال: "حصلت أنقرة على 5 مليارات دولار من قطر، وقايضتها بالليرة التركية، ولكن بسعر عالٍ جداً، وهو 12,5 ليرة للدولار الواحد، في حين أأن سعر الدولار في السوق المحلية يبلغ 6,80 ليرة".
وتستبعد الأوساط الاقتصادية لحكومة الرئيس إردوغان أن تنجح على المدى القريب في مساعيها للحد من تبعات الأزمة المالية، بعد أن بيّنت الأرقام أن أنقرة ستضطر حتى آب/أغسطس القادم إلى تسديد ما قيمته 80 مليار دولار من مستحقات الديون الخارجية، وهي 460 مليار دولار، ويجب أن تسدد تركيا 168 مليار دولار منها حتى نهاية العام الجاري، وهو المبلغ الذي لا يمكن لأنقرة أن تدفعه في ظل المعطيات الاقتصادية والمالية الحالية، وأحد أسبابها هو الانكماش الخطير في أرقام النمو الاقتصادي، بسبب وباء كورونا الذي أدى وسيؤدي إلى إفلاس عشرات الآلاف من الشركات، مع ارتفاع ملحوظ وخطير في معدل البطالة، الذي قد يصل إلى 15%، بسبب تراجع الحركة التجارية، الداخلية منها والخارجية.
وتسعى الحكومة إلى مواجهة تبعات هذا الواقع الصعب، من خلال فرض ضرائب عالية جداً على مجمل خدمات القطاع العام ومنتجاته، ليصل سعر الليتر الواحد من البنزين إلى يورو واحد. وتتوقع الأوساط الاقتصادية ركوداً تاماً في قطاع السياحة بسبب أزمة كورونا، التي يبدو أنها ستمنع حوالى 45 مليون سائح أجنبي، 7 ملايين منهم من روسيا، من زيارة تركيا، علماً أن الدخل السنوي من هذا القطاع يزيد على 40 مليار دولار.
ويبقى الرهان على الانعكاسات المحتملة لكل هذه المعطيات على الواقع السياسي في البلاد، إذ تتوقع أحزاب المعارضة للرئيس إردوغان أن يصعّد حملاته ضد معارضيه، عبر الإجراءات الإدارية والأمنية والقضائية التي ستستهدفهم خلال الأيام القليلة القادمة، بعد إصدار القوانين واللوائح الضرورية. كل ذلك حتى لا يفكر المواطن بواقعه الاقتصادي والمالي السيئ جداً.
ويخطط إردوغان لإنزال ضربة قاضية بنقابات العمال والأطباء والمحامين والمهندسين، التي اتهمها مؤخراً بالتآمر عليه والتحريض على انقلاب ضده. وتتوقع أوساط المعارضة أن يتخذ أيضاً إجراءات تعسفية ضد الإعلام المعارض، بما في ذلك منع الصحف من الصدور، وإغلاق محطات التلفزيون، أو فرض غرامات مالية كبيرة عليها، لجرها إلى الإفلاس، بعد أن اعتبر الحديث عن سلبيات الوضع الاقتصادي والمالي أو انتقاد الحكومة في موضوع كورونا "خيانة وطنية" سيحاسب القضاء مرتكبيها، حتى في شبكات التواصل الاجتماعي، وتستعد الحكومة لإصدار قوانين جديدة لمحاصرتها.
كما يوجه القضاء تهمة الخيانة الوطنية والتجسس لكل من ينقل معلومات عن التواجد العسكري التركي في ليبيا أو سوريا، كما هو الحال بالنسبة إلى مدير مكتب قناة "Tele1" في أنقرة، ومديرة الأخبار في موقع "Oda TV " المعارضة. وقد اعتُقلا يوم 8 حزيران/يونيو، بعد أسبوع من اعتقال اثنين من أعضاء البرلمان عن حزب الشعوب الديموقراطي، بتهمة الإرهاب، أي العلاقة مع حزب العمال الكردستاني، واعتقال آخر عن حزب الشعب الجمهوري، بتهمة الخيانة الوطنية والتجسّس، لأنه تحدث عن دور المخابرات التركية في نقل الأسلحة إلى سوريا.
كل ذلك زاد من شكوك الأوساط المالية الدولية حول نية الرئيس إردوغان وقدرته على معالجة الأزمة بتدابير جدية وواقعية، بعيداً من حساباته السياسية والعقائدية داخلياً وخارجياً، وهو ما أثقل كاهل الاقتصاد التركي، على الرغم من الحديث عن ضخ قطر مبالغ كبيرة في الأسواق المالية التركية، سراً وعلناً، كردٍّ للجميل، إذ أرسلت تركيا قواتها إلى الدوحة لمساعدتها في أزماتها ضد السعودية والإمارات والبحرين، بعدما كانت جميع هذه الدول قد موّلت مجتمعة، وعبر تركيا، نشاط المجموعات المسلحة في سوريا، على حد قول رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم.
لقد أثبتت السنوات العشر الماضية أن السبب الأهم لأزمات تركيا الاقتصادية والمالية هو سياساتها في المنطقة بعد ما سمي بـ"الربيع العربي"، الذي جعل من أنقرة طرفاً أساسياً في مجمل تطورات المنطقة. ودفعها ذلك إلى مزيد من التدخل في سوريا، إذ إنها تموّل عشرات الآلاف من مسلّحي ما يسمى بالجيش الوطني السوري، وتغطي كل احتياجاتهم العسكرية، كما أرسلت الآلاف من عساكرها بكامل أسلحتهم إلى الشمال السوري من رأس العين إلى إدلب.
وتقوم تركيا بتنفيذ مشاريع كبيرة في المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري، فيما تتحدث المعلومات عن حملة تركية لتضييق الحصار على الليرة السورية في هذه المناطق، وعبرها في سوريا عموماً.
ولم يكتفِ إردوغان بذلك، فأصبح طرفاً مباشراً في الحرب الليبية، وهو يساعد كل الفصائل الإخوانية، ويلبي كل احتياجاتها، ويقول إنه سيستمر في سياساته هناك حتى النهاية، وربما هذه المرة مع أميركا، التي قال "إنه فتح صفحة جديدة معها بعد اتصاله الهاتفي مع ترامب في 8 حزيران/يونيو".
وهنا، بدأ الحديث من جديد عن احتمالات العودة إلى الغرام التقليدي بين أنقرة وواشنطن، والتي قد تساعد الرئيس التركي لإنقاذ الاقتصاد، قبل أن تصبح تركيا "رجل أوروبا المريض" من جديد، مع استمرار حلم إردوغان في إحياء ذكريات السلطنة والخلافة العثمانية، عبر تحالفه مع كل القوى والجماعات الإسلامية في العالم. ويبدو واضحاً أنه سيستمر في دعمها، مهما كلفه ذلك، ما دام يعتقد أنه زعيمها السياسي والروحي.