المصدر: فورين أفيرز - ترجمة الجزيرة نت
حذر الكاتب والمفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما من أن جائحة فيروس كورونا المستجد قد تتمخض عن تراجع نسبي للولايات المتحدة خلال الأعوام المقبلة.
وكتب في مقال نشرته مجلة فورين أفيرز الأميركية أن للأزمات الكبيرة عواقب وخيمة غير متوقعة في العادة. فالكساد العظيم -برأيه- أدى إلى انبعاث النعرات الانعزالية والقومية والفاشية وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
غير أن ذلك الكساد -كما يقول- نجم عنه أيضا إطلاق مجموعة من البرامج الاقتصادية في أميركا عُرفت باسم "الصفقة الجديدة"، وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، وتصفية الاستعمار في نهاية المطاف.
وتابع أن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن تسببت في تدخلين أميركيين فاشلين، وصعود إيران، وإنتاج أنماط جديدة مما سماه "التطرف الإسلامي"، على حد قوله.
وقال فوكوياما -الذي يعد من أهم مفكري المحافظين الجدد- إن الولايات المتحدة تعاملت بشكل أخرق مع جائحة فيروس كورونا المستجد، مما أدى إلى تراجع هيبتها على نحو كبير. وأضاف أنها قد تقود كذلك إلى استمرار تآكل النظام العالمي الليبرالي وعودة الفاشية في أرجاء المعمورة.
ثم إن تعامل واشنطن مع الجائحة قد يفضي أيضًا إلى ولادة جديدة للديمقراطية الليبرالية، التي يصفها فوكوياما في مقاله بأنها نظام أربك المتشككين مرات عديدة لما أظهره من مرونة وقدرة على التجديد.
ترامب هو المسؤول
وأنحى المفكر الأميركي من أصل ياباني الذي اشتهر بكتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، باللائمة في ذلك على رئيس البلاد دونالد ترامب.
وأكد أن ترامب أحدث انقساما في البلاد بدلا من تعزيز الوحدة، وعمد إلى تسييس توزيع المعونات، وترك مسؤولية اتخاذ القرارات المهمة لحكام الولايات، بينما شجع الاحتجاجات ضدهم على نظام الصحة العامة، وهاجم المؤسسات الدولية عوضًا عن تحفيزها.
واستبعد فوكوياما أن تأتي لحظة تكون فيها الدول قادرة على إعلان النصر على المرض، لكنها ستعيد فتح اقتصاداتها شيئا فشيئا على سبيل التجربة وسيؤدي اندلاع موجات جديدة من العدوى إلى إبطاء التقدم في هذا الجانب.
ومن التبعات الاقتصادية لأي أزمة يطول أمدها أنها ستفضي -بحسب فوكوياما- إلى مزيد من الإخفاقات التجارية ودمار صناعات مثل مراكز التسوق وسلاسل البيع بالتجزئة وشركات السفر.
ويعتقد كاتب المقال أن الشركات الكبرى ذات الإمكانيات المالية الكبيرة ستكون هي وحدها القادرة على الصمود في وجه العاصفة، مشيرًا إلى أن شركات التكنولوجيا العملاقة ستجني مكاسب أكثر من غيرها إذ بات التواصل الرقمي ذا أهمية أكبر من أي وقت مضى.
أما التبعات السياسية فربما تكون أفدح، ذلك أن أي وباء مزمن يقترن مع فقدان كبير للوظائف وكساد وعبء ديون غير مسبوق، سيثير حتما توترات تسفر عن رد فعل سياسي عنيف ضد جهات مجهولة الهوية حتى الآن، على حد تعبير فرانسيس فوكوياما.
في صالح شرق آسيا
ووفقا للمفكر الأميركي، فإن توازن القوة لا يفتأ يميل صوب الشرق طالما أن شرق آسيا قد أبلى بلاءً أفضل من أوروبا أو الولايات المتحدة في إدارة الموقف.
وعلى الرغم من أن الصين كانت مصدر الجائحة حيث تسترت عليها في بادئ الأمر مما سمح بانتشارها، فإنها هي التي ستجني فوائد من الأزمة على الأقل بصورة نسبية.
فقد استطاعت بكين من استعادة السيطرة على الأوضاع وهي الآن بصدد مواجهة التحدي الآخر المتمثل في استعادة اقتصادها لزخمه سريعًا وعلى نحو مستدام.
ويرى فوكوياما أنه وعلى النقيض من ذلك فقد أخفقت الولايات المتحدة بشكل مريع في استجابتها للجائحة وهي ترى هيبتها تتراجع كثيرا.
"ورغم أن أميركا تتمتع بموارد وقدرات كامنة هائلة ولديها سجل إنجازات مثير للإعجاب إزاء أزمات وبائية سابقة، فإن مجتمعها في ظل حالات الاستقطاب الهائلة التي يمر بها حاليا، ووجود رئيس (من شاكلة ترامب)، سيحولان دون أن تقوم الدولة بعملها بشكل فعال".
ويمضي فوكوياما إلى أنه من السهل تخيل النتائج المتشائمة، فقد ظلت النزعات القومية والانعزالية وكره الأجانب والهجوم على النظام العالمي الليبرالي في ازدياد طيلة السنوات الماضية، مضيفًا أن جائحة فيروس كورونا ستفاقم تلك النعرات.
ويشير الكاتب إلى أن حكومتي المجر والفلبين استغلتا أزمة كورونا لتمنح نفسيهما صلاحيات طوارئ مما يبعدها أكثر عن الديمقراطية. وهناك دول أخرى، مثل الصين والسلفادور وأوغندا، تبنت إجراءات مماثلة.
تفاقم الصراعات
ويتوقع المفكر الأميركي من أصل ياباني أن يؤدي تصاعد النبرة القومية إلى تفاقم محتمل للصراع الدولي، فالقادة ربما يرون في المشاحنات مع الأجانب سانحة مفيدة لصرف الأنظار عن السياسة الداخلية، أو قد يغريهم ضعف معارضيهم أو انشغالهم بالجائحة لزعزعة استقرار من يستهدفونهم أو لخلق واقع جديد على الأرض.
ويذهب فوكوياما إلى التكهن بأن الدول الفقيرة ذات المدن المكتظة وأنظمة الصحة العامة الضعيفة ستضرر بشدة من الوباء الحالي، مشيرا إلى أن ظاهرة النزوح الناجمة عن التغير المناخي تمثل بالفعل نذر أزمة تلوح -وإن ببطء- في الجزء الجنوبي من العالم.
أما الغضب الشعبي فسيزداد أواره، وسيسعى اليائسون من الناس إلى الهجرة من بلدانهم وسيستغل "الزعماء الديماغوجيون" الأوضاع للاستيلاء على السلطة، وسينتهز السياسيون الفاسدون الفرصة للسطو على ما يستطيعون سرقته، وستتخذ العديد من الحكومات إجراءات صارمة أو ستنهار.
استمرار حالة الاستقطاب
وفي الشرق الأوسط عادة ما تنتعش نظريات المؤامرة، وقد ازدهرت تلك النظريات أيضًا على نطاق واسع في الدول الغنية بفضل البئية الإعلامية المنقسمة على نفسها تحت تأثير الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
وعاد فوكوياما ليوجه سهام نقده لترامب الذي يصفه بأنه رئيس غير كفء ومثير للخلاف على نحو لم تشهد البلاد مثيلا له في تاريخها الحديث، مشيرًا إلى أن أسلوب حكمه لم يتغير حتى تحت وطأة الضغوط.
وحذر من أن ترامب لو أعيد انتخابه لولاية رئاسية ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فإن فرص نهوض ديمقراطية عريضة أو النظام العالمي الليبرالي مجددا ستتراجع.
وختم فوكوياما مقاله بأنه مهما كانت نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية، فمن المرجح أن تظل حالة الاستقطاب في الولايات المتحدة قائمة، إذ إن إقامة انتخابات في ظل جائحة ستكون أمرا صعبا، وستكون هناك حوافز للخاسر فيها لكي يطعن في شرعيتها.